هذا الحوار يختلف عن حوارات سابقة ، والحوار بحد ذاته معلم إيجابي طالما لا يطلق وعوداً ولا يبث توقعات تزيينيه ، ويكون اكثر ايجابية وله فائدة نظريه وتوعويه اذا وضع النقاط على الحروف ، مساحة التقاطع ومساحة التفارق ـ ويتحول لعمل سياسي فيما لو قبض على المشتركات ووجد اليات لمعالجة التباينات او التعايش معها .
لا نملك كفلسطينيين ترف تبديد الجهود والتلهي بالاتهامات والتشدق بالشعارات ، كما خبرنا اضرار الاقصاء والتهميش. وميزان القوى الداخلي اليوم ، يفرض بالضرورة التخلي عن الاغترار تحت أي ذريعة او مسوّغ .
لقد تعلمت البرجوازية الأوروبية في مرحلة صعودها قبل قرن ويزيد ان لا مهرب من العثور على وسائل لإدارة التناقضات بين شرائحها، فابتكرت الديموقراطية الليبرالية التي امتدت الى أمريكا بعد استقلالها عن بريطانيا واليابان بعد الحرب الكونية الثانية ، وبعض منظوراتها هنا وهناك ، وبذلك تفادت الصراعات الدامية وأصبحت السياسة هي ( التنازعات والتسويات ) كما يقول منظروها.
اما جبهة الفيتكونغ، أي الجبهة الوطنية باللغة الفيتنامية ، التي ضمت 17 تنظيما وقوة وملّة فقد تشكلت قيادتها من 17 عضواً لم يكن لحزب الشغيلة ( الحزب الشيوعي لاحقا) سوى عضو واحد علماً ان لديه نصف مليون مقاتل بما يشكل اضعاف مجموع القوى الأخرى . اما التفرغ فلم يكن اكثر من 10 دولارات يتساوى فيها هوتشي مينه قائد الثورة مع أي مقاتل .
وفي لبنان ( الديموقراطية التوافقية ) ينخرط الجميع في الانتخابات على قاعدة التقسيمات الطائفية والمذهبية ، ورغم ما نتج عن ذلك من استعصاءات وازمات ، لقد تعايش في البرلمان انصار المقاومة والمناهضين للمقاومة والعناصر الوسطية ، الليبراليون والقوميون واليساريون وشتى المسميات ، كوكتيل حكومة بيروت ورجال المقاومة في الجنوب الذين سجلوا انتصاراً نوعيا بتحرير الجنوب عام 2000 وصمدوا امام الترسانة العسكرية الأقوى في الشرق الأوسط عام 2006 بما أسس ( لزمن الانتصارات) الذي نسيّه العرب منذ مئات السنين .
**************
ربما يتطلب الامر مقالة منفصلة وتفصيلية عن حجوم القوى السياسية والثقافية والطبقية والنضالية ، اما هنا فحسبنا الإشارة لاستطلاع ما قبل مواجهة أيار، اذ تعادل وزن فتح مع وزن حماس وبعد مسافة طويلة وزن الشعبية ووزن الجهاد ، وبعد مسافة أخرى اوزان باقي الفصائل ، دون نسيان ما اصبح عليه تيار دحلان من وزن، وبعد مسافة طويلة وزن لجان المقاومة ( صلاح الدين في غزة وسواها ).
هناك أسئلة تنتظر الحوار والمتحاورين ودون الإجابة عنها لا يتقدم الحوار ولا تضيق قماشة الخلاف والانقسام .
أولا : ما هي الاستراتيجية الفلسطينية ، أي هدفها المركزي وقواها والقوى الاحتياطية وسبل الوصول اليها وطابع قيادتها . هل الهدف هو التحرير والعودة ام المرحلية بالعودة والدولة وتقرير المصير ام الدوليتين بعد ان ارتفع منسوب هدف التحرير والعودة وبهت شعار الدولتين منذ وقت غير قصير ؟
وهل المفاوضات واستحقاقاتها هي الطريق ام نموذج أيار هو الخيار الذي التفت حوله الفعاليات في ارجاء الوطن والشتات ، أم الجمع بينهما وكيف؟ وهل يمكن الرهان على إدارة بايدن الذي كان نائبا لأوباما لمدة دورتين انتخابيتين ولم يقم بيوقف الاستيطان الاستعماري ؟ وهل حكومة تل ابيب بقيادة الليكود التي صوتت ضد ا وسلو ، وثبت بالتجربة على امتداد ربع قرن بانه لن ( تقوم دولة في زماني ) نتنياهو ، او لو تشكلت حكومة جديدة برئاسة بينت ، فهل ستكون اكثر تجاوبا مع المطلب الفلسطيني بالدولة ام على العكس من ذلك ؟
ولو افترضنا ان الدولة على حدود 67 خارج طاولة البحث ، الا يستدعي ذلك تخفيض حدة الصدام بين نهج التسوية ونهج المقاومة وضبطه ضمن الاسس الحضارية ؟
اما عن القوى السياسية والاجتماعية ، فهي جميعها مطلوبة سواء للصمود الوطني او للتصدي لمتطلبات التنمية بميادينها المتعدده او للنضال مهما كان أسلوبه وغايته .
وربما كلمة ماركس مفيدة هنا ( السياسة هي ممارسة مجتمعية شاملة ) أي ليس فقط الفعل السياسي المباشر .
وماذا عن القيادة ؟
لا يمكن الاحتفاء بالتاريخ والشرعية التاريخية رغم أهميتهما ، اذ لا حاضر دون تاريخ ، لكن ثمة متغيرات كبيرة طرأت على الحالة الفلسطينية وقواها ومركباتها .
وطالما لا يتم تشكيل مجلس وطني ( انتخابا وتوافقا ) كمرجعية شاملة للشعب في الخارج ( اكثر من 6 ملايين ) والداخل (اكثر من 6.5 مليون ) فهل من سبيل سوى تشكيل قيادة تضم الجميع … ليس الفصائل فقط بل وكفاءات ناشطة في كل التجمعات الفلسطينية أيضا فنسبه لا تقل عن 40% حسب غير استطلاع لا تبدي تأييدا للفصائل ، وبين هؤلاء أوساط حيوية اكاديمية وثقافية واجتماعية ونسوية وشبابية واقتصادية ….
لا يجب تجاهل احد هنا .
وتشكيل المجلس الوطني هو المدخل الدينامي لإعادة بناء مؤسسات م. ت. ف وتعظيم دورها . ففي مواجهة أيار غابت تقريبا بما يضعف مكانتها وصفتها، وبتموضع م. ت.ف كقائد فعلي انما تتوحد الإرادة الفلسطينية وتصبح قولا وعملا مرجعية للسلطة او للسلطتين .
قد يقول قائل لنتفق مجدداً على اجراء انتخابات ” للتشريعي ” غير ان هذا التفكير اخفق ، بصرف النظر عن الأسباب ” والذي يجرب مجرب عقلة مخرب ” يقول مأثورنا الشعبي . والتفاصيل هنا كثيرة ولا حاجة لنكء الجراح .
ولكن ماذا لو لم يتم التوافق في القاهره على استراتيجية سياسية وقيادة جماعية ؟ حينها لن يبقى سوى الإمساك بالقواسم المشتركة الميدانية وما امكن عن قواسم سياسية واعلاها شأنا الانتفاضات والتحركات ودروس أيار بالجملة او بالمفرق؟ وما اكثر القواسم الميدانية ؟ وهذه تتوحد عليها القواعد الشعبية في الريف والجامعة والسجن والمخيم … اما الانقسام فمصدره المقولة السياسية ونخبها .
ومهما تعاظمت الفجوة بين التيارات السياسية ، فأوسلو لم يفضِ لحل سلمي او استسلامي ، وما ينتظرنا ليس اكثر من أوسلو مجمل. وبالتالي يتعين اشتقاق مفردة التعايش بين الخيارات والتوجهات وضبط تمظهرات الخلاف دون شطط او شيطنة . فلا يوجد فلسطيني واحد يفرط بالقدس وعلى الأقل شطرها الشرقي ( علما ان شطرها الغربي يضم 37 قرية ومساحته ضعف مساحة الشرقي ). اما المساعي التفاوضية التي تهيء لها إدارة بايدن فلا تشمل ولو بصورة ضبابية الانسحاب من القدس الشرقية ، اخذين بالحسبان ان ( القدس الموحدة ) هي محط اجماع صهيوني في الحكومة او المعارضة على حد سواء .
ثانيا : سؤال تاكتيكي واقل شأنا ، أي ما يسمى إعادة الاعمار وهنا لا ينبغي تحويل هذه المسألة الإنسانية الملحة لاوكازيون او سباق للفوز فالمخطط المعادي يستهدف اضعاف المقاومة ودس السم في الدسم بإفراغ ما راكمته مواجهة أيار ولي ذراع من لم يفلح معه تهديم الأبراج وتقتيل المدنيين وصولا الى شق الساحة الفلسطينية التي توحدت ميدانيا على نحو باهر .
ألا توجد إمكانية لتشكيل لجنة متخصصة تحت اشراف وطني كألية لإعادة الاعمار والمطلب الأشد الحاحية في هذه اللحظة هو تسديد أجور عشرة الاف شقة لاذت اليها عوائل فقدت مكان سكنها ليس في أيار 2021 بل ومنذ عدوان 2014 أيضا .