لقرونٍ مديدة خلت، شهد القرن العشرون التقلبات الأكثر والأهم على شكل النظام الدولي، وما آل إليه ذلك من تغيّرات على تركيبته، وعلى مجرى العلاقات الرابطة والتفاعلات الجارية بين فواعله الأساسية من الدول. كان النظام الدولي في مطلع ذلك القرن متعدد القطبية، يتشكل من خمس دولٍ كبرى أوروبية. ومع أن الحرب العالمية الأولى أصابت تلك التعددية إصابة بالغة، إلا أن النظام الدولي بقي يترنح حتى تحوّل مع نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نظام ثنائي القطبية، تقف على قمة هرمه الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. لمدة تقترب من نصف قرن استقر النظام الدولي ثنائي القطبية، لحين انهار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وتحوّل النظام بشكلٍ تلقائي ليصبح أحادي القطبية، ورثت أميركا بقاءها قوةً عظمى متفردةً على قمة هرمه.
بانتهاء تعددية القطبية وثنائيتها انتهى عهد توازن القوى، وانفتح المجال للهيمنة الأميركية على العالم. ولكن الأمر لم يكن لأميركا يسيراً، فمع التفرد تأتي مسؤوليات كثيرة واستحقاقات مكلفة. لقد تركت الدول الكبرى، كروسيا والصين، إما لأنها لم تكن قادرة على منافسة الدولة العظمى، أو لأنها كانت راغبة في توريطها، أميركا تواجه لوحدها قضايا العالم العديدة والمعقدة. وللحفاظ على ديمومة هيمنتها، خاضت أميركا حربين في آن، في أفغانستان والعراق، وواجهت قوى إقليمية صاعدة، وتصدعات في بنى تحالفاتها التقليدية. ولمواجهة التحديات العديدة والمتنوعة التي واجهتها، عانت أميركا مما يُعرف في حقل العلاقات الدولية بظاهرة تمدد القوة، وهي ظاهرة تشير إلى أن انتشار القوة العسكرية لدولة ما، مهما بلغ مقدارها من شأو، يؤدي بالضرورة إلى تشتتها وإضعاف قدراتها، إضافة إلى زيادة تكاليفها الاقتصادية، ما يراكم الأعباء على الدولة ويستهلك مقدراتها. ويضاف إلى ذلك في حالة أميركا ما أصابها من وهنٍ داخلي، بسبب الصراعات الداخلية، الأيديولوجية والسياسية والعرقية والاجتماعية المتفاقمة، والتي نجم عنها صعود في قوة اليمين المتطرف، بما يحمله من فكرٍ استعلائي- انغلاقي- انعزالي، عبّر عنه وصول ترامب لمقاليد السلطة، وما رافق فترة إدارته من مواجهاتٍ ومحاولات فجّة لفرض الإرادة الأميركية على العالم.
تؤمن النظرية الواقعية في العلاقات الدولية بأن مبدأ «توازن القوة» هو صمام الأمان لاستقرار النظام الدولي، ما يعني ضرورة وجود دولتين أو أكثر على قمة النظام الدولي، تكبح كل منها قوة القوة أو القوى الأخرى، ما يضطرها جميعاً للتوصل إلى تفاهمات، والقيام فيما بينها بتسوياتٍ تؤدي إلى تقليص حدّة التوترات، وتكبح إمكانية تفجّر الصراعات في مواجهات عنيفة. ويؤشر المنظرون الواقعيون إلى أن اختلال ميزان القوة بين القوى الرئيسية كان السبب وراء اندلاع الحربين العالميتين خلال القرن العشرين. ولذلك، كان رأي الكثير من هؤلاء المنظّرين عندما انهارت ثنائية القطبية أن وضع النظام الدولي لن يعاود الاستقرار إلا بانتهاء حقبة أحادية القطبية الدولية سريعاً وعودة توازن القوى أساساً لبنيان هذا النظام.
بفشل الأيديولوجية الترامبية في محاولتها استدامة، أو على الأقل إطالة أمد، أحادية القطبية الدولية التي تتربع بموجبها أميركا على قمة هرم النظام الدولي، ووصول الديمقراطي جو بايدن إلى سدّة الرئاسة الأميركية، يبدو أن هناك اعترافاً أميركياً، وإن كان أوليّا وضمنيّا حتى الآن، أن النظام الدولي يتشكل من ناحية فعلية من قطبية ثلاثية؛ أميركا وروسيا والصين. هذا على الأقل ما أنبأتنا به الجولة الخارجية الأولى لبايدن، والتي أخذته قبل أسبوعين من قمة الدول السبع الصناعية التي عُقدت في منتجع كورنوال في غرب بريطانيا، إلى بروكسل لحضور اجتماعات مع قادة الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وذلك قبل توجهه للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جنيف.
 كان الهدف الأميركي من لقاء «الحلفاء» الغربيين، قبل لقاء بايدن مع بوتين، يتركز على ترميم العلاقة الأميركية مع هؤلاء الحلفاء، واستعادة تماسك «الجبهة» الغربية، والتي كانت تضررت بشدّة خلال فترة إدارة ترامب. هذا التماسك كان من وجهة النظر الأميركية ضروريا لمواجهة التحديات التي تجابه أميركا وحلفاءها الغربيين من قبل الجهتين المثيرتين للمتاعب والقلق، واللتين تهددان استمرارية الهيمنة الأميركية والتفوق الغربي على العالم. هاتان الجهتان هما روسيا والصين.
تثير روسيا القلق الأميركي ليس بسبب تنافسيتها الاقتصادية، بل بسبب قدراتها العسكرية. فالاقتصاد الروسي ما فتئ ضعيفاً منذ انهيار الاتحاد السوفياتي (حجمه أصغر من حجم اقتصاد ولاية كاليفورنيا منفردة)، ولا يشكّل لأميركا مبعث قلق تنافسي على اقتصادها، إلا في مجال سوق السلاح العالمي. وعدا عن أن روسيا هي القوة النووية الوحيدة المكافئة لأميركا، فإنها تشكّل لها منافسة حقيقية في سوق السلاح التقليدي عالمياً، وتستخدم مبيعاتها من هذه الأسلحة منفذاً لتوطيد علاقاتها مع العديد من الدول، وتعزيز نفوذها عالمياً. ويكفي معرفة أن روسيا هي أكبر مورّد للسلاح للدول الأفريقية، على سبيل المثال، لتقدير حجم دورها وتصاعد نفوذها في القارة الأفريقية.
لقد حاولت روسيا منذ مطلع القرن الحالي استرداد بعضٍ من مكانة الاتحاد السوفياتي الضائعة، وخصوصا في مناطق حيوية للمصالح الروسية، على حدودها الغربية مع جورجيا وأوكرانيا تحديدا، وفي حوض البحر الأبيض المتوسط، وخصوصا في سورية التي ثبتت فيها لنفسها وجوداً عسكريا دائما. كما استغلت روسيا مخزونها الهائل من النفط والغاز لتوطيد علاقتها الارتباطية مع دولٍ غربية، خاصة مع ألمانيا، والتي تنامى اعتمادها على روسيا لسدّ احتياجاتها النفطية الحيوية. يضاف إلى ذلك تدخلات روسيا المتصاعدة في مجرى السياسة الداخلية الأميركية، وخصوصا محاولاتها المتكررة التأثير على مجرى ونتائج الانتخابات الأميركية، ناهيك عن الهجمات السيبرانية التي تتعرض لها مؤسسات ومرافق حيوية أميركية، وتعزوها أجهزة المخابرات الأميركية لقرار رسمي للكرملين.
بلقائه مع بوتين في مؤتمر قمة، اعترف بايدن بمكانة روسيا على الصعيد الدولي، وبضرورة التعاطي معها كقوة عالمية أساسية. ومن خلال حشد التأييد الغربي خلف أميركا، طرح بايدن على بوتين تهدئة العلاقة بين الطرفين من خلال إعادة تنظيمها وفق أسسٍ منتظمة ومتوقَعة وقابلة للتنبؤ. واشتمل العرض الأميركي أيضا ليس فقط على إمكانية التعاون في مجالات متعددة، وإنما طلب المساعدة الروسية في تخفيض حدّة التوتر في ملفات عديدة، وتقديم العون لإتمام انسحاب أميركي هادئ ومنظم من أفغانستان.
أما فيما يتعلق بالصين فإن القلق الأميركي أعمق من القلق من روسيا. فالتعامل الأميركي مع روسيا يستهدف احتواءها والحدّ من تصرفاتها السلبية، أما بالنسبة للصين فهي في المنظور الأميركي تشكّل البديل الذي من الممكن أن يُطيح بمكانة أميركا العالمية، ويحلّ مكانها. لذلك حاول بايدن تأليب الحلفاء الغربيين ضد الصين، واستخراج موقف وقرارات للحدّ من الصعود الصيني عالمياً. ومع أن نجاح مسعاه كان جزئياً، لتململ دولٍ أوروبية وازنة، كفرنسا وألمانيا وإيطاليا، تجد لنفسها منافع من التعاون مع الصين، إلا أن بايدن استطاع بشكلٍ إجمالي الخروج بموقف غربي إجماعي يؤشر إلى القلق الغربي من تسارع اختراق الصين للعالم من بوابة مبادرتها المعروفة بـ «الحزام والطريق».
ما يُقلق أميركا من الصين هو قوتها الاقتصادية المتصاعدة بمتوالية هندسية متسارعة. فالصين الآن هي ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد أميركا، واقتصادها مُرشّح لتخطي الاقتصاد الأميركي مع نهاية هذا العقد، وهي تقوم حالياً بضخّ استثمارات مالية هائلة في محاولة دؤوبة لربط مختلف أرجاء العالم اقتصادياً بها. ليس هذا فحسب، وإنما ما يقلق الدوائر الأميركية أكثر هو تحويل الفائض الاقتصادي الصيني إلى توسّع في البنية العسكرية، والتي ستحوّل الجيش الصيني إلى صاحب قدرة عالمية بحلول منتصف هذا القرن. إن ما يقضّ مضاجع أميركا حالياً هو تحويل الصين نفسها إلى قوة إقليمية مهيمنة على منطقة الباسيفيك (المحيط الهادئ)، والدليل على ذلك ما تقوم به من هيمنة على بحر الصين الجنوبي تحديداً. والقلق الأميركي ينبع من أن تحقُق هذه الهيمنة الإقليمية للصين ستجعل منها قوة أقدر على المنافسة معها. لذلك تسعى الإدارة الأميركية الحالية لحشد أكبر تحالف ليقف أمام هذه الامكانية الصينية. ولكن الدلالة المستخلصة من هذا المسعى الأميركي هي اعتراف أميركا بالصين كقوة عالمية صاعدة.
يبدو جليّا أن النظام الدولي خلال النصف الأول من القرن الحادي والعشرين سيتمحور حول ثلاثية قطبية دولية تتشكل من أميركا والصين وروسيا. سيكون مثيراً مراقبة تطور ديناميكية العلاقة المتدحرجة بين هذا الثالوث خلال الفترة القادمة، خصوصا في كيفية عمل وتفاعل مبدأ «توازن القوى» بين هذه القوى، كما وإمكانية بزوغ قوى جديدة صاعدة على الساحة الدولية قد تغيّر من هذه الديناميكية.