عندما تقوم الحكومة بتنظيم “مسيرة” مؤيدة لها، ولأجهزتها الأمنية، وتخطط مسبقًا لاستخدامها أدوات قمع تعتدي خلالها على مسيرة شعبية تتظاهر أو تعتصم بصورة سلمية معارضةً لسياستها الأمنية، ومنددة بجريمة مقتل الناشط “نزار بنات” على أيدي بعض منتسبي أجهزتها، وليومين متتاليين، في شارع الإرسال وفي ميدان ياسر عرفات، إنما يُدلل على تخلي هذه الحكومة عن مسؤولياتها التي أقسمت على الدستور “القانون الأساسي” من أجل حماية مصالح الشعب وحقه في التعبير والتظاهر التي كفلها هذا القانون نفسه، بل ويعتبر ذلك أيضًا تخليًا عن مسؤوليتها في القيام بواجبها الأساسي في حفظ أمن المواطنين والسلم الأهلي الذي سبق أن حماه الشعب الفلسطيني في أحلك الظروف خلال سنوات الاحتلال المباشر، وقبل تأسيس السلطة الوطنية ذاتها، الأمر الذي يؤشر فعليًا إلى سقوط الحكومة في شباك الحكم الأمني، وهي المرحلة التي تعتبر الخطوة قبل الأخيرة لسقوطها النهائي بغياب مبرر بقائها، إن لم تكن قد سقطت بعد. هذا بالاضافة إلى أن استدعاء حركة فتح تحت شعار “الدفاع عن الأجهزة الأمنية وحمايتها”، والزج بتاريخ هذه الحركة التي قدمت آلاف الشهداء وعشرات الألاف من الأسرى، إنما سيؤدي بالنتيجة، وبغض النظر عن النوايا، إلى إضعاف حركة فتح بوضعها في مواجهة مع شعبها بعد أن استمر هذا الشعب ومنذ تأسيس الحركة يشكل الحاضنة العريضة لها، وبما يمسّ بشكل خطير بمكانة وشعبية ما كان يطلق عليها “أم الجماهير” نحو مزيد من إضعاف دورها والأخطر أنه يؤسس لبذور الشر التي قد تصل إلى حالة انفجار الاحتقان المتراكم إلى فلتان واسع النطاق قد لا يمكن السيطرة عليه، ولا تُحمد عقباه.
كنتُ في ميدان ياسر عرفات وشاهدت بأم عيني هذه الحقائق المحزنة التي تشوّه نضالات شعبنا ومكانة قضيته العادلة، ودون الدخول في تفاصيل الاعتداء بالهراوات و الأيدي على كل من تواجد في الميدان، وما تعكسه حالة الغضب والاحتقان على طبيعة الشعارات الحادّة والمتطرفة لحدٍ كبير على الجانبين، إلا أنها تعبر عن تسلل الكراهية، وتُعمق ندوب وجروح التشققات الخطيرة التي بدأت تمسّ وحدة ومدى تماسك النسيج الاجتماعي لأبناء الشعب الواحد، والذي سبق وعبّر عن أقصى درجات وحدته في مواجهة سياسات التطهير العرقي في الشيخ جراح وسلوان وباقي أحياء مدينة القدس المحتلة، وضد مصادرة الأرض وتوسيع نطاق الاستيطان في باقي أرجاء الضفة الغربية، وفي مواجهة العدوان الدموي على قطاع غزة. فانتقل كل هؤلاء من خندق المواجهة الموحدة ضد الاحتلال،والتي وصل صداها ومساندتها لكل عواصم العالم ، إلى خندقين متقابلين يملؤهما الغِلّ الذي بدأ يتسلل للقلوب ويملؤها بالخوف من الحاضر وعلى المستقبل .
إن الخروج من هذا المأزق الذي ندور في حلقاته الجهنمية منذ سنوات، وما يلحقه من تآكل مضطرد لقضية شعبنا الوطنية، والذي للأسف بات يتعمق بشكل خطير و متسارع منذ الإعلان عن إلغاء الانتخابات والانجرار مجددًا للتراشق بين طرفيّ الانقسام، وما تلاها من قضايا فساد أخطرها قضية صفقة التطعيمات، جاءت جريمة اغتيال نزار بنات كضحية وشهيد الحق في الرأي و التعبير، وتداعيات هذه الجريمة كالقشة التي قصمت ظهر البعير.
إن مغادرة هذا الواقع بات مستحيلًا دون معالجة جذرية للأسباب والبيئة التي ولّدته، وجوهرها غياب مؤسسات الوطنية الجامعة، سيّما مرجعيات المساءلة والمحاسبة، سواء الائتلافية في إطار المنظمة أو البرلمانية في إطار السلطة، ودون بلورة استراتيجية عمل موحدة بعيدة عن كل قيود أوسلو السياسية والأمنية والاقتصادية، وتضع حدًا فوريًا لأسباب الاحتقان الاجتماعية والاقتصادية والأمنية بدلًا من استمرار الهيمنة والتفرد والإقصاء التي ندور في حلقاتها وتأخذنا يومياً من أزمة لأخرى ومن فضيحة لفضيحة ثانية وتتدحرج كالدومينو . فأخطر ما أفرزته تداعيات الأزمة الأخيرة هو تفريغ حالة الوحدة الشعبية التي استعادت عافيتها بفعل الصمود الوطني في القدس وغزة وسائر مدن وبلدات فلسطين المحتلة، كما في بلدان الشتات .
إن الاستهانة بحالة الغضب الشعبي، وبالحراكات الشعبية وخاصة الشبابية المسنودة بالرأي العام والتأييد الشعبي الواسع، والترويج الواهم بأن ما يجري مؤامرة خارجية أو الاعتقاد بانه مجرد زوبعة في فنجان يمكن القضاء عليها بالعصا الأمنية، أمران خطيران لن يؤديا سوى لمزيد من الإحباط والاحتقان والتمزق والتآكل، كما أن الاستهانة بقدرة المؤسسة الحاكمة والاعتقاد بإمكانية رحيلها وإسقاطها لا ينمّ عن واقعية، بل وربما يُضيِّق القاعدة الاجتماعية للاحتجاجات رغم تضرر قطاعات واسعة في المجتمع من سياسات الإقصاء والتهميش وقمع الحريات وحالات الفساد التي تتّسع يوميًا .
إن تحديد الأهداف والمطالب المحقة لإنجاز التغيير الديمقراطي بصورة واقعية وربطها بمهام التحرر الوطني ومتطلبات النهوض الشامل في مواجهة الاحتلال من خلال تغيير طابع وبنية ومهام السلطة الوطنية وعقيدتها الأمنية والعقد الاجتماعي بينها وبين المواطنين ، وبما يؤكد الحرص الشديد على حماية السلم الأهلي وتماسك النسيج الاجتماعي، وتوفير كل ما من شأنه تعزيز صمود الناس وفي مقدمتها المناخات الديموقراطية، وضمان حرية الرأي والتعبير والتظاهر والتنظيم، وجسر الفجوة بين الناس والقيادة عبر سلسلة من الإجراءات الفورية بإلغاء كل القرارات والقوانين بقرار التي أوصلتنا لما نحن فيه اليوم، وفي مقدمتها وقف المراهنة على وهم التسوية السياسية على حساب الاهتمام بالأوضاع الداخلية سيما استعادة استقلالية وهيبة القضاء و اعادة بناء دور المؤسسة الامنية و التزامها بالقانون .
إن الخطوة الأولى المطلوبة لتوفير مناخ ينزع فتيل الأزمة المتفجرة و المعالجة الحكيمة لحالة الاحتقان المتزايد تتمثل في الاعتذار عن جريمة مقتل نزار بنات، وتقديم كل من شارك وساهم فيها، وكل من أعطى أوامر الاعتداء على المسيرات الاحتجاجية وعلى الصحفيين للمحاكمة الفورية وإطلاق سراح جميع المعتقلين على خلفية التظاهر والاحتجاج فورًا ودون إبطاء.
إن كل يوم يمر يزيد من إضاعة الفرصة والوقت لاحتواء المأزق نحو تغيير سلمي حقيقي، وما يتطلبه ذلك من إعادة الأمل بالوحدة في إطار المنظمة والحكومة، وإشراك المجتمع سيّما القيادات الشابة في صنع القرار الوطني. ومع أن الوقت ينفد فإن الوحيد الذي تقع عليه مسؤولية الاستجابة لمطالب الناس بالتغيير، وما زال بإمكانه أن يقوم بذلك، هو الرئيس؛ فهو القادر على إقالة الحكومة وتشكيل حكومة وحدة وإنقاذ وطني تقوم بمعالجة كافة القضايا سيّما إنهاء الانقسام وإعادة الإعمار ورفع الحصار عن القطاع والقيام بإصلاح جذري ممأسس يراكم لإحداث عملية تغيير شاملة على كافة الصعد المختلفة تمهد لاجراء انتخابات ديمقراطية شاملة وشفافة و نزيهة و في اطار تكافؤ الفرص ” رئاسية و برلمانية و للمجلس الوطني” لانتخاب قيادة تمثل جميع الفلسطينين، كما أنه هو القادر على الدعوة لحوار وطني يترافق مع الدخول الفوري للقوى غير الممثلة بقيادة المنظمة للمشاركة في صنع القرار الوطني.
إن المعضلة الكبرى التي تواجهنا هي طغيان الصراع على السلطة و شرعية التمثيل على حساب الديمقراطية و برنامج الكفاح الوطني الموحد ، و كأن السلطة والتمثيل إمتيازات وكنز للمصالح الخاصة لمن يتبوأهما، و ليس مسؤوليات وطنية عليا لحماية الوطن والمواطن، و المدخل السليم لمعالجة هذه المعضلة يتمثل في الخروج من هذه الدائرة التي تشكل وقود التآكل إلى رحاب الوحدة الوطنية و المشاركة الشعبية في حماية الأمل والمستقبل و الحقوق الوطنية .
ولهذا نقول “التغيير ضرورة و دونه الانهيار الذي لن يوقفه سوى جبهة وطنية عريضة للانقاذ” .