كانت حركة الوافدين على مدخل مسستشفى كابلان، في مدينة رحوبوت، خفيفة؛ فدرجات الحرارة كانت مرتفعة بشكل استثنائي، وأخبار عودة انتشار فيروس كورونا بدأت، على ما يبدو، تردع البعض، وتلزمهم بالتحرك ساعة الضرورة الملحّة فقط، كيلا تعود أيام الحصار المقيتة.
دخلت من الباب الرئيسي، وبدأت أمشي نحو قسم الأمراض الباطنية في الطابق السابع؛ فهناك سوف ألتقي بموكّلي، الغضنفر أبو عطوان، الذي نقل من سجنه إلى هذا المستشفى في منتصف يونيو أثر تردّي حالته الصحية، بسبب إضرابه عن الطعام.
في البداية انتابني شعور بالغربة والضيق، فزوّار المكان كانوا مختلطين بالمرضى، وكان الجميع يتحركون بتثاقل واضح ووجوههم مغطاة بالكمامات الملونة؛ كان بعضهم يَجرّ أو يُجرّ على كراسي متحركة، ارتفعت من جنبات عدد منها مواسير فضية، تتدلى من رؤوسها أكياس مليئة بالسوائل، ومنها تنطلق أنابيب بلاستيكية رفيعة تغور أطرافها في أذرع ركاب تلك الكراسي. وقفت للحظة أراقب، فانتبهت كيف كان الجميع يتدحرجون ببطء وبصمت، ولا يتكلمون، حتى تخيّلت نفسي أمام مشهد من أحد أفلام الخيال العلمي، وهؤلاء أشباح غريبة أو مخلوقات تشبه البشر.
لم أتوجه إلى منطقة استعلامات المستشفى، فما أن استأنفت تقدمي أيقَظت رائحة المكان ذاكرتي؛ فمشيت وانحنيت يمنة ويمنة فيسرة حتى توقفت، بعد عدة دقائق، أمام المصعد المناسب الذي سيقلني، كما أقلني في السنوات الماضية، نحو الطابق السابع، حيث رقد رفاق الغضفنر قبله. في المصعد شعرت باختناق شديد. كان الهواء ثقيلاً ومشبعاً بروائح المرض والعرق والأدوية. توقفنا في كل طابق؛ كانت ثرثرة “المسافرين” متواصلة، وفوضاهم في تحديد وجهة المصعد مزعجة، فنزل من نزل وصعد آخرون وكأنهم في رحلة طيران مجانية؛ وأنا، من مكاني في الزاوية الخلفية، كنت أحاول، أن استعيد ما خبرته من زيارات المشافي، فلكل مشفى رائحته الخاصة وكل الروائح تذكرنا بالموت.
لم يكن أمام الغرفة حرس السجون، أو رجال أمن؛ فدخلتها، بعد أن مررت على أسرّة أربعة مرضى اسرائيليين، تعمّدوا إشاحة أعينهم عني، فتذكرت لحظتها، ما اسم ذكر النعام. استقبلتني أخته بنازير حارسة سلامته، وذات الشخصية القوية اللافتة، وعرّفتني على والدته وعلى ضيفين، رجل عربي وسيدة يهودية، جاءا ليتضامنا مع أخيها، جلست قريباً منه، فأدار وجهه نحوي بصعوبة ولم يتكلم، سألته إن كان يعرفني فأجابني بهزة خفيفة من رأسه وتبسم. سألته ماذا تريد مني؟ حاول أن يستقيم بجسده فبدت المهمة مستحيلة؛ لقد خانه الجسد وبقيت معه العزيمة. عيناه ناعستان تشعان، من فتحتين صغيرتين، إصراراً طفولياً؛ وذقنه مكسوة بشعر داكن، كلون الحناء، أو ربما الكستناء، وحاجباه سيفان جميلان يحملان جبينا شهيا، وشعره تخفيه كوفية عقدها مستديرة على رأسه، كزنار من شمس، بطريقة “خليلية” مألوفة، وأرخى من طرفها ذيلاً يشبه ذيل الفرس.
لقد حوّل الإسرائيليون المضرب عن الطعام إلى محرر مريض أسير، ورحّلوا عن كواهلهم، المسؤولية عن حياته وعن حريته
“أريد منك أن تخرجني من هنا إلى البيت”. قال بصوت خفيض وسبابته تلوح برقة في الفضاء، ثم أردف مؤكدا، أنه يعي خطورة وضعه الصحي؛ فهو مضرب منذ خمسة وخمسين يوماً، ولا يشرب إلا الماء، ويرفض إجراء الفحوصات الطبية؛ لكنه يعرف أيضاً أنه مسجون، منذ بداية شهر أكتوبر الماضي، بدون سبب وبلا محاكمة. فإما الحرية وإما الحرية؛ قال بحزم وحاول ألا يغفو. أوجزت أمامه خلاصة الإجراءات القانونية، التي استنفدت حتى موعد زيارتي له؛ فبعد أن أمضى مدة ستة شهور في السجن، وفق أمر الاعتقال الإداري الأول، قرر قائد جيش الاحتلال الإسرائيلي إصدار أمر اعتقال جديد لمدة ستة أشهر إضافية؛ فصادقت المحاكم العسكرية على أمري الاعتقال، ومثلها فعلت محكمة “العدل” العليا، “بذريعة كونك عنصرا خطيرا في “التنظيم” وتهدد بميولك إلى النشاط العسكري أمن وسلامة المنطقة والمواطنين. وبعد أن تردت حالتك الصحية، وفق تقارير أطباء المستشفى، تقدمت النيابة العامة الإسرائيلية بطلب من المحكمة العليا، لتجميد أمر الاعتقال أو لتعليقه، فكونك مقعداً، وبحالة صحية حرجة، لم تعد تشكل خطرا كما كنت، وذلك حسب ادعاءات النيابة. وقد استجاب قضاة المحكمة العليا لطلب النيابة، وقرروا، في الرابع والعشرين من يونيو المنصرم، تجميد أمر الاعتقال بحقك، وأوضحوا أنك، منذ تلك اللحظة، ستبقى في مستشفى كابلان، ولكن ليس كأسير، ولن يحرسك حراس مصلحة السجون ولا غيرهم، بل كمريض حيث ستستطيع عائلتك زيارتك، وفق قواعد الزيارة المتبعة في المستشفى. وأضافوا، أنه وفي حالة استردادك لصحتك ستسترد أيضا قوات الأمن الاسرائيلية “حقها” في تجديد أمر الاعتقال الإداري بحقك”.
كانت تعابير الدهشة تنطق من وجهه المتعب؛ حاول أن يستوضح كيف يمكن أن تصدر هيئة قضائية مثل هذا القرار- السخرية، فأين القانون وأين المنطق؟ قاطعته، وقلت له بألم قليل وبكثير من العتب المبطن: “ألم تتعبوا، أنتم هناك في فلسطين المحتلة، من التفتيش عن القانون في خوذات الجنود؟ أولم تيأسوا من الركض وراء المنطق الوهمي في قرارات محاكم الاحتلال؟ أما زلتم تؤمنون بعدل بنادق رسمت المواجع على شواهد قبوركم؟”. لم أقسُ على الغضنفر؛ وقلت ما قلته بلغة المحامي المجرّب، الذي يعرف كيف تكون قلوب هؤلاء المناضلين أرق من نبع، وآمالهم معلقة على رموش العبث. فأنا في الحقيقة أستوعب دهشته إزاء ما تفتقت عنه عقول أجهزة القضاء الإسرائيلي، حين اخترع قضاة ما يسمى بمحكمة “العدل” العليا إمكانية تجميد قرار الاعتقال الإداري الصادر بحق المواطن الفلسطيني، وإبطال مكانته، بالمفهوم القانوني، كأسير؛ لكنهم يمنعونه، في الوقت نفسه، أن يتصرف كإنسان حر، وأن يختار المكان الذي به سيعالج أو يموت. لقد حوّلوه إلى محرر مريض أسير، ورحّلوا عن كواهلهم، بفذلكة وقحة تشبه شطحات محاكم التفتيش الجهنمية، المسؤولية عن حياته وعن حريته. فمن بدأ في سنوات الخمسين الماضية باختراع منزلة “الحاضرين الغائبين” سيعرف اليوم كيف يخترع منزلة “المحرر الأسير”. سألته إن كان يعرف شيئاً عن تاريخ محاكم التفتيش، فلاحظت على زجاج النافذة التي بجانبه صورة وجهه وبسمة خفية وسرب حمام كان يطير بسلام.
بعد نصف ساعة تقريبا دخلت علينا الطبيبة، رئيسة القسم، وطلبت أن تشرح بحضوري للغضنفر حقوقه وواجباتها؛ فهي كطبيبة مسؤولة عن بقائه حيا، عليها أن تقوم بفحصه وبمعالجته. سمعها باحترام ورفض ما طلبته بحزم. احترمَت موقفه وحذّرتْه من أنه يمر في وضع صحي حرج، وقد تصيبه في كل لحظة جلطة دماغية أو سكتة قلبية، وقد يقع ضحية لحالة وفاة فجائية. أصغى لها بانتباه شديد، ومدّ كفه نحو السماء وأغمض عينيه، لهنيهة، ثم نظر نحو أمه، التي كانت تستمع للحديث بعينين حائرتين وبشفة مزمومة وسمرة تشبه لون العناب، وقال للطبيبة بطيبة: إما ذلك المدى، وأشار نحو سرب الحمام البعيد، وإما هذا الردى. أحسست بركاناً في شراييني وتمنيت لو أكتب اليوم قصيدة يكون مطلعها: “على هذه الأرض من يستحق الحياة”.
نظرتُ في عيني الطبيبة التي كنت أعرفها منذ سنوات، وتابعت معها عدة حالات أسرى مشابهة، بدءا من قضية الأسير سامر العيساوي عام 2012، وآخرها قضية الأسير ماهر الأخرس، عام 2019، فلم أجد في عينيها غير الحيرة والدهشة. بلعت ريقها، توقفتْ عن الكلام للحظات ثم تابعته فقالت للغضنفر: أنت في الواقع بالنسبة لنا إنسان حر، وتستطيع أن توقع على وثيقة مغادرة وتغادر المستشفى على مسؤوليتك، لكنني ملزمة، هكذا أردفت، أن أخبرك أنك اذا اخترت ذلك، سأقوم بإخبار حرس المستشفى، فلربما لديهم تعليمات أخرى.. لم ينتظر الكمالة فأجابها مباشرة: لن أوقع لكم على أي ورقة، واعلمي أننا والحرية على ميعاد.
أعلمته بدوري أنني انتظر من المستشفى إعداد تقرير طبي جديد، فبعد استلامه سوف أتوجه إلى الجهات الإسرائيلية المعنية وسأطالب بالإفراج عنه أو بنقله إلى مستشفى فلسطيني، وإننا سنلتقي قريبا. استسمحته المغادرة، فأذن لي بعد أن ضمن وعدي بأن أكون ضيفهم على مائدة التحرير؛ غصصت، وأعلنت عن إضرابي عن الطعام كي آتيهم جائعا. ضحك مثل فلة أصيلة، ووضع سبابته على شفتيه وحررها برشاقة فارس فكانت هذه قبلته هي زوادتي في طريق عودتي.
تواصلت مع الإخوة في نادي الأسير، وبلغتهم تفاصيل زيارتي؛ فأفرحوني بتفاصيل عملية الإفراج عن الشيخ خضر عدنان بعد شهر من خوضه إضرابا محكما عن الطعام. وقرأوا لي مقطعا من رسالته التي نشرها فور تحرره، حيث خصني بها بمقطع قال فيه: “سلامي للمحامي الإنسان الذي افتخر به، ورافقني في السنوات (2011،2012، 2015، 2018 ،2021 ) جواد بولس الفذ، الذي أفخر بصحبته وأهله وزوجه وعياله. ابنته كتبت لي في بداية الاضراب: الحرية لخضر عدنان. وأسأل الله أن لا أكون قد خذلتها، ولا الأهل في كفرياسيف، ولا في الجولان، ولا في المثلث، ولا في غزة، ولا في الشيخ جراح، ولا في القدس ولا في جنين ولا في أي موقع”. سمعت الرسالة بغبطة جمة، ونظرت إلى الأعلى. كان شباك الغضنفر فوقي، وكنت أسمعه، هكذا خيّل لي، يردد معي “على هذه الأرض من يستحق الحياة “. طرت عائدًا إلى وعدي ومن فوقي راح يصفق سرب حمام.