عائلة «عم عبد المنعم اللي يرش المي عمال ع بطال»، وعائلة مكين أفندي الكبيرة، التي جعل أطفالُها السطح ملعباً لكرة القدم، وعائلة معالي التي ما أن تبدأ اجتماع الصلاة حتى تتشاجر، وعائلة رشاد التي يتحرك أطفالها بأقل قدر من الثياب، وابنهم الفتى رشاد الذي يحب جارته الصغيرة (أخت الراوي)، التي يطول سرحانه بها، فيما تسرح هي بالمربى والخبز، وأمه، التي يراها دوماً (شايلة الهم)، وجدته دائمة الصلاة والدعاء لأسرتها بالخير، وعدلي (الأب) الذي يخشى أشياء عادية كالذاهب الى السينما، خوفاً من عقاب جهنم. ذلك هو الحي الذي يعيش فيه الطفل نعيم، وعمره 10 أعوام عام 1966، في حي شبرا الشهير في القاهرة.
يتم السرد بعد 30 عاماً، أي عام 1996، حيث أصبح نعيم أربعينياً، حيث يبدو أن الحال لم تتغير كثيراً، وأن البنية التقليدية للمجتمع ما زالت كما هي.
كان اختيار الكاتب هاني جرجس والمخرج أسامة فوزي زمن الفيلم-الرواية، الذي شكل سردية سينمائية ممتعة، لعام 1966، موفقاً في تعميق دلالة الحدث السياسي، كنتيجة حتمية لهذه البنى التقليدية، التي لم يكن لتفضي إلى أي خلاص وطني.
سحرية التفكير النقدي، تم بشكل إيحائي، وصولاً للمباشرة أحياناً، وقد بدأ ذلك في الإيحاء بثقل الفهم الديني الكلاسيكي، وقصر اختيار الفعل بناء على الثواب والعقاب، ووجود التناقض بين القول والفعل لدى رجال الدين، كالنهي عن اقتناء تلفزيون، في حين يتم اقتناؤه. في حين تكشف السردية السينمائية هشاشة الدراما التي تقدم قصصاً غير واقعية، وكوميديا متكلفة خاصة التلفزيونية، وبشكل خاص بعد هزيمة 67، فلا وعياً تثير، بل تخديراً. أما النقد الإعلامي، فيظهر في تصوير الصحافة المرتكزة على شخصية الفرد، فيما كان هناك نقد إيحائي لنظام التعليم، القائم على استظهار المعلومات لا التفكير، ذلك النظام الذي لا يراعي المواهب الفردية، بل يقمع تلك المواهب، كما حصل مع خال نعيم، الذي يضطر للهجرة ولا يعود. كما يتم نقد البنية الإدارية.
وهكذا، فقد انسجم غروب شمس نهار اسكندرية، مع غروب النظام السياسي رمزياً، في حزن عام، رحل خلاله «عدلي»، وجدّ عدلي لأمه، حيث مثّل ذلك لربما، موت الأب السياسي والبطركي.
من المهم هنا، ونحن نتحدث عن التحولات السياسية والثقافية التي عصفت بالأفراد والنظام السياسي، والمجتمع، خصوصاً ونحن نتحدث عن الخلاص الفردي والعام، أن التحول بدأ يظهر لدى «عدلي» كفرد في المجتمع، حيث راح يعيش عملية انفكاك، وتخلص من الثقل على مختلف أنواعه. لكن_ ولأن ذلك كان فردياً وليس عاماً_فلم يتم إنقاذ المجتمع ولا تخليصه، فكان ما كان من هزيمة وصفها النظام بالنكسة تخفيفاً، لإطالة عمره الافتراضي، ما يعني أن عملية النهوض، هي عملية عامة وخاصة، تنبع من وجود منظومة متنورة ديمقراطية في جوانب حياة المجتمع، وبالتالي الأفراد، حتى لا نغترب، أو نهاجر كخال عدلي. وصفته الأم «الواد بيقول مفيش حياة هنا البلد بتعيش نكسة».
وحتى نضيف هنا، ونؤكد على ما ذهبنا إليه من وعي الأفراد، علينا أن نركز على التحولات في شخصية كل من «عدلي» و»نعمات».
تحولات عدلي: شخصية الأستاذ عدلي، المعلم، شديدة الارتباط بالمجتمع، فهو دائم الدعوة لإغلاق الشبابيك، كذلك يكره ذهاب ابنه نعيم للسينما مع خاله، كذلك ضج من لوحات زوجته الناظرة نعمات الفنانة خاصة تلك التي ظهر فيه العري. ويظل الحال كذلك، إلى أن يبدأ في التحول في الجزء الثاني من الفيلم. ومن الأسباب المباشرة ربما، أنه تعرض لضرب المباحث، بعد شجاره مع الناظر، بسبب احتجاجه على ميزانية دعم الطلبة، حيث وشى به. وساعدت معرفتُه بمرض في القلب، على تأمله في هذه الحياة، ودوره فيها، إضافة لمرض ابنه نعيم «بالروماتيزم». لذلك راح يتغير، فحين عرف أن نعيم ابنه ذهب الى السينما، لم ينفعل كالسابق. تلك الحوادث مجتمعة دفعته للذهاب للترويح عن نفسه، ولأنه غير معتاد، فقد ثقل رأسه، وراح يبوح بعد أن تحررت عقدة من لسانه، التي تلت ربما عقدة الفكر والشعور. وهنا يبدأ بالبوح والنقد النفسي والاجتماعي والسياسي، وصولا لحالة شعور وجودي؛ بدأ بالاعتراف بأنه أول مرة يشرب ويدخن، وأنه (طلع خيبة وعملها ع حاله بسبب كلمتين تهديد)، كذلك يبوح للنادل ما يشعر به فعلاً من داخله، بأنه بالرغم «وفي البيت كنت بفكر اني بمشيهم ع العجين وهم يستغفلوني»، ثم يبوح بالعلاقات الكاذبة في العمل، بين الموظفين والمدير، حيث يشكّل أصحاب المناصب العليا من هم دونهم «على كيفهم» وهكذا. ثم بعد هذا التمهيد نجده يذهب مذهباً فكرياً، بأن التغيير لا يأتي من أحد، بل هو عامل ذاتي. وتتسارع جرأته حين يتساءل عن صعوبة إجبار الناس بالتدين، وصولا للنقد السياسي في الحديث عن «إجبار ناصر بالاشتراكية. وهنا يقترح النادل عليه بأن يتوقف «كفاية كده انت شربت كتير». لكنه يستمر بالحديث عن كذب بطانة عبد الناصر، وهنا ينسحب النادل بهدوء، في حين نرى أن استماع الرجلين قربه على البار لحديثه، موافقة له، كأنه يعبّر أيضاً عما في داخلهم. «سلسلة طويلة من الخوف والكبت والجبن والكذب، كل واحد كابت على نفسه واللي تحتيه»، كاشفاً أن تدينه كان شكلانياً لا في العمق، وليس هذا فقط، بل أنه ينتقد ما يظنه من استقامة في نفسه إنما جاء من خوفه من النار، لا من قناعته، «الحقيقية اني بحب الخطيئة»، متسائلاً بعمق أخلاقي ووجودي «يا ترى لو مفيش جنة ولا نار كنت حعمل نفس الحاجات؟».
وقد تجلت التحولات في التغير في سلوكه اليومي تجاه نفسه والأسرة، بالعودة للحب والشعور الجسدي الآمن المستمتع لا الشعور بالتأثيم. كذلك اصطحبهم في رحلة تصييف في الاسكندرية وتغيير موقفه من السباحة في البحر، باحثاً عن تحقيق سعادة ابنه نعيم، حيث يحضر له دراجة هوائية حين يراه يطلب من أحد المتنزهين «لفة ع البحر».
نعمات: تعاني الكبت، والانفصام، وقد ظهر ذلك جلياً في لوحاتها، فهي تصور الطبيعة وغير ذلك، لكن في الخلف لوحات عري. حين اكتشف ذلك زوجها، عادت ترسم بتشجيع من مشرف الفن، وصارت ترسم ما تحبه وزوجها نائم. تحاول التغيير عاطفياً وجسدياً وفنياً، لكنها مرتبكة، فما أن مرض طفلها نعيم حتى راحت تصلي طلباً للغفران على خطيئة ممارسة الحب مع الفنان. لكن يحصل تغيير في شخصيتها بعد وفاة زوجها، حيث في الوعي واللاوعي، تبدأ بالضغط على ابنها وابنتها، من أجل التحصيل المدرسي، وإغلاق الشباك بالنسبة لابنتها المراهقة؛ فالمفارقة التي حدثت، لربما هي نتيجة برمجة النظام الاجتماعي، استجابة لحديث أمها مع سيدة في العزاء «بنتي حتعيش مع ولادها وحتخليهم احسن ناس». وهي على رأي نعيم ابنها «أعاني من سيطرة أمي أخذت الراية من أبي».
نوسة: فتاة عادية تحب وتتزوج، لكن حين تعرف جبن زوجها واختبائه خوفاً من التجنيد بعد هزيمة 1967، تطلب الطلاق، لذلك، فهي ليست الوحيدة التي طلبت الطلاق على حد سرد نعيم، بل نراها تمثل الإيمان بوجود دور للأفراد لا الهروب.
وأخيراً «نعيم»، الذي انعكست عليه كل تحولات الأسرة، وكأنه يمثل الشعب، «أعاني من سيطرة امي اخذت الراية من أبي»، وهو يكره المؤسسات البطريركية: : «بكره بابا والكنيسة طول عمري بكره الدكاترة اللي بتحكّموا فينا، وبقولوا إنهم عارفين مصلحتنا أكثر منا».
يمكن قراءة براءة نعيم الذي كان يحقق شغفه بالسينما والساندويشات والصور، من خلال استغلال خوف الآخرين في محيط الأسرة والمدرسة من الكبار، كسلوك الشعب، في حالة الخلاص الفردي، حيث استغل غزليات خالته نوسة، ورشاد جارهم، وأطفال المدرسة.
سينمائياً: فيلم واقعي ارتبطت فيه السخرية بالكشف والتعرية (اللوحات كانت إشارات محفزة) ، حيث كان الفيلم مثالاً على التفكير النقدي الحاد.
بدأ الفيلم بمشهد الحمام والتقاط الحبوب، وما يثيره من دلالة الذكر والأنثى والطبيعة، وقد بثّ الفيلم بعض الرموز، كانقطاع الماء والكهرباء، وترقيم البيض، لتقنين الاستخدام، بسبب العمر الافتراضي بإيحاء ربما على الحكم والأيديولوجيا الاشتراكية، كذلك في الاسكتش المسرحي عن النبي يوسف، وعلاقة ذلك بخال نعيم ورومانسيته الحالمة، كذلك عرض كلمة تنحي عبد الناصر على وقع مشهد غروب الاسكندرية في يوم حزيراني. كما أن اختيار زمن عامَي 1966 و19967 كان موفقاً، للحديث عن قطف ثمار الحكم الشمولي.
وبسبب جدية الفيلم، فقد خفف المخرج على المشاهدين بتضمينه الكثير من المشاهد الكوميدية، لعل من أجملها قول نعيم لخالته وخطيبها المتغازلين في أعلى الكنسية، بعد أن أخذ ضريبة سكوته: بتصلوا، مكرراً مبررهما بوجودهما معاً هناك لكن بطريقة كوميدية.
«دع الأموات يدفنون موتاهم»: إنه المستقبل، بعد رحيل الأب والجحد والنكسة-الهزيمة، ثمة أمل ينشده نعيم، حيث يعيد فتح التلفزيون للاستمتاع تاركاً لأسرته البكاء، والانشغال ربما بالماضي.