على مدار أربعة عشر عاماً مضت، أي منذ أن سيطرت حركة حماس على قطاع غزة، ونحن نلاحظ بأن الحركة التي واصلت التفاوض على ملفي المصالحة وكسر الحصار عن غزة، مع كل من السلطة الفلسطينية، وإسرائيل، دائماً ما كانت تفصل بين الخطين، أو أنها كانت تدفع بهما ليكونا خطين متوازيين لا يلتقيان، فإن تقدمت بأحدهما، توقفت عن متابعة الآخر، وهكذا، حتى يومنا هذا.
في حقيقة الأمر، يمكن القول، بأن حماس تعلمت كثيراً، من إسرائيل أساليبها في الحوار والتفاوض، التي تستند بالأساس إلى كونها تراها طريقة لفرض شروطها وتصورها، وليس للتوصل إلى حل وسط، يأخذ بعين الاعتبار مصالح أو احتياجات الطرف الآخر، وأنها تجعل من الحوار أو التفاوض متوالية لا تنتهي باتفاق، وإن انتهت باتفاق، لا تقوم بتنفيذه، مراهنة على ما يمكن أن يحدث من تغيرات لاحقاً، تكون في صالحها، فلا تقدم على الحل ما دامت ترى أنها عبره أو خلاله تقدم تنازلاً ما.
وخير دليل على ما نقول، حقيقة أن الانقسام ما زال قائماً رغم مرور أربعة عشر عاماً على وقوعه، ورغم أن كل تلك السنوات، شهدت حوارات وطنية وثنائية وبرعاية أكثر من راع عربي ودولي، كذلك شهدت أكثر من اتفاق وأكثر من توافق، لكن عبثاً، دون النتيجة المرجوة، أما كسر الحصار، فإنه ما زال وهماً يداعب مخيلة حماس، التي ما عادت تهتم بكسره كثيراً كما كان الحال في السابق، فقد توافقت مع حالة غزة الحالية، في انتظار ما تبقى من وقت، تنتظر فيه وخلاله أن تسقط ثمرة السلطة بين يديها، حين يحل فصل الخريف، لذا فإن حماس الإخوانية لا تستعجل أمرها، وهذه صفة سلفية بالمناسبة، تربى عليها أعضاء الأخوان المسلمين عشرات السنين.
ما يطلق عليه ملف تبادل الأسرى، كان وما زال ملفاً تستخدمه حماس لرفع مكانتها في الشارع الفلسطيني، وقد حاولت في الماضي أن تستخدمه لكسر الحصار عن غزة، أو لتحسين ظروفها المعيشية، ولكن وحيث أن الملف كان يستخدم في إسرائيل لأغراض انتخابية، لذا فبعد أن هدأ صخب الانتخابات وسقط بنيامين نتنياهو، فقد تراجع اهتمام إسرائيل الذي كان خلال السنوات السبع الماضية، ليس كبيرا، بذلك الملف، أو أنها _أي إسرائيل_ رفعت من سقف شروطها لإنهائه، لذا فإن كل ما تبع وقف إطلاق النار من تفاوض، منذ الثاني والعشرين من أيار الماضي، لم ينتج عنه شيء، سوى أنه حافظ على مضي الوقت الحرج في إسرائيل، لحظة انتقال السلطة، دون أن يحدث الأسوأ، رغم أن أسباب اندلاع تلك المواجهة ما زالت قائمة، حيث اقتنع الطرفان، بتأجيل الحسم في الشيخ جراح، وبطن الهوى، فيما حاولت إسرائيل أن تعوض مستوطنيها في بيتا ومحيط نابلس والخليل.
المهم هنا هو أن هناك متغيراً حقيقياً، تمثل في خروج نتنياهو من مكتب رئيس الوزراء، ورغم أن بديله لا يقل عنه يمينية، إلا أن الحكومة الحالية، فيما يخص موقفها من حماس وحكمها في قطاع غزة، مختلفة عن سابقتها، فقد كانت حكومات نتنياهو طوال اثني عشر عاماً مضت، هي عراب الانقسام، الذي حرص على عدم إسقاط حكم حماس في غزة، وعلى عدم سحق الحركة، لأنه كان من شأن ذلك أن يقوي السلطة وحركة فتح في الضفة الغربية، وبالتالي يضع حجر عثرة في طريق مخطط تهويد القدس، ومنع إقامة الدولة الفلسطينية، وضم نصف الضفة الغربية.
باختصار فان حكومة نفتالي بينيت/ يائير لابيد، لا تهتم كثيراً بـ «حماس»، لذا فهي لن تكون معنية كما كان حال سابقتها، بتقديم «الهدايا» لها، لذا فإننا نلاحظ أن الحكومة الإسرائيلية بدأت تراجع كل السياسة السابقة التي تعاملت بها حكومات نتنياهو مع حماس، وفي مقدمتها دخول الأموال القطرية، التي كانت ومنذ أعوام بمثابة «جلوكوز» الإنعاش لنظام حكم حماس في غزة.
وبرأينا فإن إصرار إسرائيل على عدم إدخال الأموال بالحقائب، وتوزيعها بالبريد بمعرفة وإدارة حماس، كما كان يجري الأمر في السابق، ليس أمراً شكلياً، أو قليل الأهمية، فهذا يعني مع التدمير الكامل للأنفاق بين مصر وغزة، كذلك ملاحقة البنوك والتحويلات، بأن قدرة حماس على تمويل أجهزة حكمها، ستستند بدرجة كاملة، مباشرة وواضحة، على الضرائب، التي ستدفع الفقراء للانفجار لاحقاً، وأن ذلك سيضع حداً لـ «ثراء» أمراء المقاومة، المتحقق بأموال تأتي من الخارج، وأنهم سيضطرون إلى دس أيديهم في جيوب الناس.
هذا المنطق سينطبق على أموال الإعمار، التي طالما وبعد أربعة حروب مضت، نظرت إليها حماس على أنها الكنز في آخر المطاف، فإذا كانت جهات دولية قد اشترطت أن تجري إعادة الإعمار عبر السلطة، ورفضت حماس بالطبع، كما فعلت منذ عام 2009، فإن إسرائيل المتحكمة بصلة وصل غزة بالخارج، لن تسمح بإعادة الإعمار، إلا عبر الأمم المتحدة، وهكذا لن يكون بمقدور قادة حماس السطو على المال العام، وبالتالي ستنتهي مغامراتهم العسكرية والسياسية إلى حصد الفشل، بدلا من حصد الأموال.
بالطبع فإن الطرفين: إسرائيل وحماس، حين يكونان في حالة حوار، ومن أجل تحسين موقف كل منهما، تقوم حماس بإطلاق البلالين الحارقة، وحالياً يخدمها فصل الصيف اللاهب، فيما ترد إسرائيل بقصف مواقع أو أنفاق أو أهداف محددة، داخل قطاع غزة، وهكذا تبقى الحالة متوترة بهدف دفع الوسطاء لمحاولة إيجاد حل، لكنها تبقى دون المواجهة، فيما كانت فصول المواجهة محاولات لتسجيل النقاط، نتنياهو ضد المعارضة، وحماس ضد السلطة، وبقيت العلاقة بين إسرائيل وحماس تدور ما بين المواجهة والتهدئة أو الهدوء، بهدف احتواء إسرائيل لحماس، لتبقى تنفذ هدفها بإبقاء الانقسام داخل المجتمع الفلسطيني، وكل الحروب كانت تقوم بمهمة تقليم أظافر حماس، وإدارة صراعاتها الداخلية ما بين خطيها السياسي والعسكري، أو ما بين مُوالي إيران وأتباع قطر وتركيا، حتى تبقى الحركة أولاً قادرة على الاستمرار في السيطرة على قطاع غزة، ثم في عدم السقوط في جيب أحد من الأقطاب الإقليميين المذكورين.
لهذا فإن حماس في غزة تحولت طوال 14 عاماً، إلى موقع احتكاك فلسطيني/إسرائيلي، وإسرائيلي/إيراني، وقد بقيت رغم كل شيء تحت السيطرة، وفق صيغة «لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم»، ولتبقى معادلة المواجهة والتهدئة لعبة تنتظر حسماً إقليمياً، فيما يخص ملفَّي احتلال إسرائيل لأرض دولة فلسطين، وملف إيران النووي.