كيف نعزيها نحن السجناء المحاطين بكل الأسوار؟ كيف نصافحها ونواسيها بوفاة ابنتها سهى يوم الأحد 11-7-2021؟ هي التي مسحت دموع النساء ولم تجد من يمسح دمعتها في ذلك المساء، هي الأسيرة المناضلة النائبة خالدة جرار أم الأسيرات، أم البنات المعتقلات القادمات من انفلات رصاص جنود الاحتلال في الشوارع وعلى الحواجز، وفي الأم دائما عافية الشفاء.
الأسيرة خالدة جرار تحتفظ بصور ابنتيها يافا وسهى فوق برشها الحديدي في سجن الدامون، سقطت صورة سهى عن البرش، لم توافق دولة الاحتلال على طلب الأفراج عن خالدة للمشاركة في جنازة ابنتها وتوديعها، أغلق الباب تماما، لا أحد سوى الجدار والدموع الصامتة، تخاطب ابنتها الراحلة ، تقبل جبينها، تحتضنها تقرأ على قبرها الفاتحة، يتحرك زمن السجن في عقلها وقلبها، هي ارادة امرأة تكسر الأقفال وتمشي في ممر الانتظار بخطى واثقة.
يقول السجانون الاسرائيليون أنهم رأوا في تلك الليلة اشياء غريبة ومخيفة، رأوا امرأة متعددة أكثر من خالدة، رأوا نساءً يتصدين لقطعان المستوطنين في ساحة المسجد الأقصى في القدس، ونساءً يضئن المشاعل فوق جبل صبيح في قرية بيتا قضاء نابلس، ونساءً يواجهن الجنود بجرأة على الحواجز وفي المظاهرات وفي الصلوات، بالحجارة والدعاء والصبر والولادة والقصيدة.
السجانون الاسرائيليون اصيبوا بالهواجس والهوس ليلة وفاة سهى جرار، الخوف والقلق من صمت خالدة، كل شيء يهتز من حولهم، هويتهم المتشظية، الاسوار العالية، الاسلاك الشائكة، ارواحهم تخنقهم، اشباح القتلى تطاردهم، جنازة سهى تصل الى بوابة السجن، تجرف ترسانتهم العسكرية، وقال المحللون الاسرائيليون ان كل ذلك بسبب نبوءة خالدة جرار، نبوءة ام فلسطينية غاضبة وثائرة.
النائبة خالدة جرار هدف مستمر للاعتقال وعليها أن لا تبقى في رام الله بعد ان رفضت الأبعاد الى أريحا والخضوع لذلك القرار العسكري المجحف، وأمام هذا الهدف لا بد من ايجاد اسباب للاعتقال وتكييف تهمة معينة، وان تعذر ذلك يمكن اعتقالها تحت غطاء الاعتقال الإداري، المهم هو أن تكون خالدة بين القضبان، وأن يوضع حد لتحركها وخطواتها ولحضورها الإنساني والإجتماعي.
قوانين اسرائيل الفضفاضة ومفهومها الأمني الغامض كفيل بأن تصل الدبابات والجنود في ليلة داكنة الى منزل خالدة جرار وتقييدها واعتقالها واقتيادها الى السجن كما وصلوا سابقا اكثر من مرة الى هذا البيت وعتباته، الشاهد على الاجتياح الليلي للنوم واليقظة والعبث بأحلام الناس، من يقرأ لوائح الاتهام التي وجهن لخالدة يجد ان اسرائيل وجهت تهما ضد الضوء والصوت والهواء والماء وحرية الرأي، ضد كل النساء، وأنها وضعت قيودا في ايدي كل برلماني منتخب في العالم، وانها صادرت الحقوق الإنسانية والمدنية، واطلقت النار على كل كلمات خالد جرار وروحها الفلسطينية وهي تمارس دورها في الحياة وفي النضال.
لائحة الاتهام تكتسح الثلج والنار والغضب الإنساني، تكتسح الأنوثة والرجولة وتحاكم الحقول والأناشيد والأغاني، تحاكم خصوبة المرأة وطعم القمح ووشوشة السماء في الصيف، كأن الفضاء سجن تحرسه دولة اسرائيل الكبرى.
ولدت المرحومة سهى في ليلة برد مثلجة عام 1990، وكان والدها غسان في السجن، صار الثلج ساخنا سخونة جنازير الدبابات التي طوقت البيت، ايقظت البنات من النوم، كل شيء كان يرتعش خوفا وفزعا وبردا واسئلة متكررة.
المرحومة سهى قالت: شهدت وأنا طفلة صغيرة اعتقال والدي لمدة تزيد عن سبع سنوات، ولطالمها استرقنا السمع لنعرف شيئا عنه، وعن التعذيب الذي تعرض له حينها، اعتقدت ان ما مر بنا جعلنا محصنين من صدمات الاعتقال وتداعياته، لكن اعتقال أمي كان ثقيلا ومؤلما ولا يشبه شيئا على الإطلاق، ظننت أني بالغة قادرة على امتصاص الألم، الا أن اعتقال أمي تجاوز كل شيء، هذه هي سهى التي ولدت في الثلج وماتت في الحر في ليلة قائظة، في الطقس الأول لم تجد اباها وفي الطقس الثاني لم تجد أمها، كأنها عاشت كل فصول حياتها فاقدة.
اني رأيت الأسيرة خالدة جرار في مدينة رام الله، تشارك في جنازة ابنتها، تستقبل المعزين وترش الحناء على التابوت من المسجد الى المقبرة، تتحرك بين دمعة ووردة بكبرياء، تنظر تارة الى داخل البيت تبحث عن سهى، وتارة تنظر خارج البيت لترى جيش الاحتلال يستعد للهجوم والمداهمة.
خالدة جرار لا تحتاج الى شفقة من الاحتلال كي يسمح لها المشاركة في جنازة ابنتها، فالمحتل مجرد من كل الأخلاق والقيم الانسانية، هي الآن في رام الله، هي في الجنازة، هي في الشارع، تحررت ارادتها من السجن، خالدة الان طليقة، ولم ينم المحققون الاسرائيليون ما دامت خالدة صاحية، لن يهدأ الشارع ما دامت خالدة تقود المسيرة، هي امرأة عنيدة، هكذا وصفها مجلس الوزراء الاسرائيلي، لم يستطع السجن ان يدمر فيها حياتها القادمة.
المئات من الأسرى والأسيرات توفي أقاربهم وأحباؤهم، ما أقسى تلك اللحظات، الصمت الجارح البليغ، وجع القلب، انشطار الذكريات، تتبعثر الرسائل، يتوقف الكلام في غرف الزيارات، السجن ينكمش ويضيق، الحزن بلا حنجرة، لم تأت الأم في هذه الزيارة، الأم توفيت، لم يأت الأب، الأب توفي، لم يأت الولد أو البنت، لقد توفيا، انتظروا طويلا، عشرون عاما، اربعون عاما، لم تتوقف الحرب ولم يأت السلام، جاءوا على العكاكيز وعلى العربات المتحركة، تغيرت ابواب السجن عشرات المرات، هرم السجن والأسرى لازالوا محشورين بين الحياة والآخرة.
في كل يوم هناك عزاء صغير في زنزانة ضيقة، وفي السجن يأتي الموت ثقيلا وسريعا، لكن الحرية لا تموت، هكذا يعزي الأسرى بعضهم البعض ويواصلون العيش مع احبائهم الراحلين دون انتظار الجنازة، فالسجن موت، والفلسطيني هو الوحيد الذي جعل الموت في السجن يجفل من حياة الأسرى الحافلة.
خالدة جرار وجدت نفسها في غرف التحقيق في المسكوبية، هناك وحوش تكره النساء الفلسطينيات، محققون يطفئون شروق الشمس في عيونهن ويعشقون العتمة، محققون كأنهم لم تلدهم نساء، ولدوا في المعسكر بين الرصاصة والقنبلة.
خالدة جرار وجدت نفسها في قاعة المحكمة، ما هذه المحكمة؟ سوط بيد جهاز القمع الاسرائيلي، محكمة شكلية صورية، مهزلة، الأحكام الرادعة، التهم الجاهزة، مسرحية طويلة مملة، خداع العالم بوضع قوانين حربية عنصرية غطاءً لجرائم الحرب والإبادة، لا براءة في هذه المحاكم العسكرية، لا مراقبة دولية ولا محاسبة، لا أحد يخرج من المحكمة حرا، صرخت خالدة: قاطعوا هذه المحكمة.
خالدة جرار وجدت نفسها في ما يسمى مستشفى الرملة، تلك المقبرة، رائحة الموت عالية، أسرى غادروا الدنيا وآخرون ينتظرون وما بدلو تبديلا، معاقون ومشلولون وجرحى ومصابون بأمراض خطيرة، توابيت سوداء، شهقات وانفاس متقطعة، كوابيس لا توقفها المسكنات والمهدئات والأدوية، رجفات وارتعاشات الاجساد الأسيرة المنهكة، لم ينقذها احد، لم تصل سيارة الاسعاف ولا منظمة الصحة العالمية ولا الأمم المتحدة.
خالدة جرار في رام الله، المدنية التي تعرف كيف تدخلها بلا تصريح ولا تنسيق أمني مع سلطات الاحتلال، هي في رام الله الآن، المدينة التي تطل كل جهاتها على القدس العاصمة، رام الله التي ارتقى فيها فادي وشحة وابو علي مصطفى ومحمود حجازي وابو السكر وربيحة ذياب وعطاف يوسف، ومئات الشهداء، رام الله المدينة الأنثى المجبولة من نار ودماء وحب للحياة.
خالدة جرار في رام الله، تزور عائلة أحمد سعدات ومروان البرغوثي وفؤاد الشوبكي وناصر ابو حميد، امهات الأسرى حولها، مواكب واعلام وصور، تزور الغضنفر أبو عطوان في المستشفى الاستشاري، تصعد فوق جبل الطويل، تهنئ الناس بعيد الأضحى المبارك ، سمع الجميع صوت خالدة، صوت المرأة الأم المربية والشهيدة والأسيرة والطالبة والعاملة، صوت الحقوق المتساوية وعدم التمييز على أساس الجنس والعرق والدين، صوت التعددية المجتمعية والشراكة والوحدة الوطنية، المرأة هي المرآة لكل مجتمع وحضارة وتطور وتغيير في البنى التقليدية.
خالدة جرار في رام الله، في قلب المواجهة، تتصدى مع عوائل الأسرى والشهداء لقانون القرصنة المالية لأموال الشعب الفلسطيني بادعاء اعانة عوائل الأسرى والشهداء، الجميع سمعها تصرخ بأن الاحتلال يسعى الى تجريم نضال شعبنا ومقاومته المشروعة، دافعوا ايها الناس عن مشروعية نضالكم وكرامتكم، عن مشروع الحرية، لا مقايضة ولا مساومة على التضحيات والحقوق القومية، الجوع لا الركوع، لسنا ارهابيين، اسرائيل هي أكبر دولة ارهاب في هذه المنطقة، تمارس الارهاب وتنتج الارهاب وباتت تشكل خطرا على العدالة الكونية.
خالدة جرار في رام الله، في جنازة ابنتها، نعزيها ونقول لها ما انشده الراحل معين بسيسو:
لك الجماهير ابناء بلا عدد..
فلست وحدك يا أما بلا ولد..
أن يغلقوا بيتنا الدامي فقد..
فتحوا لنا الزنازين بيتا شامخ الزرد..
من لم تودع بنيها بابتسامتها..
الى الزنازين لم تحبل ولم تلد..