صدى نيوز - تتشكّل في مخيلة الشباب، الذي تدفعه مشاعره الوطنية وحسّه بالظلم، صورة أسطورية وطهرانية عن القادة الوطنيين أو الثوريين، ويُخيل لهم أن القائد يظل ثابتًا في مواقفه ومبادئه وسلوكه ولا يتغيّر، ولا تهزه أي عاصفة. تلك النظرة الرومانسية تتلاشى عند المنعطفات التاريخية والتحولات الاجتماعية السياسية، التي تختبر القادة فتغربلهم وتُظهر معدنهم الحقيقي، فإما يسقطوا في الاختبار أو أن ينجحوا.
وهذه المنعطفات غالبًا ما تفتح الباب على التساؤلات والأسئلة والمراجعات والنقد، فيجد بعض الشباب - الأكثر معرفة وحسًا نقديًا - طريقه إلى مقاربة الأمر بطريقة علمية وعقلانية تستند إلى الفهم المادي (الجدلي) والثقافي والنفسي لسلوك القائد الفرد وسلوك الطبقة أو الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها.
أما البعض الآخر، من الطرف المحتجّ، فيغرق في المقولات الأخلاقية المثالية العاجزة عن استيعاب أثر التحولات الاجتماعية الاقتصادية والمصالح والخيارات السياسية في سلوك الطبقة السياسية السائدة. وهذا الطرف، ذو النزعة التجريدية، يلتقي مع جماعات السحيجة، أو الشبيحة، في العجز عن الفهم العلمي لظاهرة الانهيارات السياسية والتحلل الاجتماعي الذي يتبع تلك الانهيارات.
نسوق هذه المقدمة في إطار محاولة لفهم خلفية تصريح القائد الفتحاوي، السيد محمود العالول، الذي هدّد بعدم إظهار أي رحمة ضد من يهدد الحركة. وكما كان واضحًا فإن هذا التهديد، الذي صدم الكثيرين، ومنهم فتحاويون، لم يكن موجهًا ضد المستعمر ولا المستوطنين، إنما جاء على خلفية الحراكات الشعبية التي انفجرت احتجاجًا على إعدام نزار بنات من قبل قوات أمن سلطة أوسلو، والمطالبة بمعاقبة المجرمين، ورحيل محمود عباس.
علمًا بأنّ محمود العالول اكتسب سمعة وطنية نزيهة، وصدقية في أوساط حركة فتح وكذلك من خارجها. فمنذ أن أبعدته إسرائيل عام 1971 إلى الأردن، على خلفية مقاومته للاحتلال، انتمى إلى حركة فتح، وأصبح لاحقًا قياديًا في المقاومة الفلسطينية في لبنان. كما كُلّف برئاسة مكتب حركات التحرر العالمية لتعزيز علاقات الثورة الفلسطينية بالحركات التحريرية والتقدمية في العالم، وخلال الانتفاضة الأولى استشهد نجله البكر، جهاد. عاد إلى الوطن بعد اتفاقية أوسلو، وفي في عام 2009 انتخب عضوًا باللجنة المركزية لحركة فتح، وأعيد انتخابه في عام 2016، وعيّن مسؤول التعبئة والتنظيم. ونظرا لسمعته الطيبة، بادرنا، في حزب التجمع الوطني الديمقراطي، في عام 2015، إلى تنظيم زيارة في مكتبه في رام الله، وذلك لفحص مدى إمكانية التغيير داخل حركة فتح، وتطوير العلاقة المتبادلة مع الحركة من خلاله، خاصة وأن علاقتنا مع السلطة، وتحت قيادة محمود عباس تحديدًا، كانت متوترة على الدوام، إذ تميز موقفنا تجاه هذه السلطة، وتنسيقها الأمني مع المستعمر بالنقد اللاذع وغير المتهاون. وكانت سلطة أبو مازن تنظر إلينا كحزب متطرف أسوة بالنظرة الإسرائيلية، وتناصبنا العداء والخصومة.
كانت الزيارة لطيفة وصريحة، وأعربنا عن كامل موقفنا السياسي. غير أن تقدم العالول في قيادة الحركة لم يثمر عن جديد. وظلت الأمور الداخلية داخل هذا التنظيم الكبير تتدهور. ومع "ترقية" العالول لمنصب نائب رئيس حركة فتح، ونائب محمود عباس، عام 2017، تكرست عملية إخضاع فتح للسلطة، وغربتها عن شعبها، الذي انتفض مؤخرًا على طول فلسطين التاريخية، وفي الشتات. وفي الهبة الشعبية الأخيرة ومعركة القدس، تعرّت السلطة وذلك انسجامًا مع التوجه الرسمي لمحمود عباس، الرافض لأي شكل من المقاومة المنظمة، الشاملة، حتى الشعبية منها.
ولكن كيف يمكن فهم تهديد العالول الذي قال إنّ حركة فتح لن ترحم من يستفزها، موجهًا تهديده للداخل وليس للمستعمر؟ هل هي زلة لسان أم تعبيرٌ عن أيديولوجيا تحرف النضال الفلسطيني نحو الداخل بدل توجيهه للخارج، ضد المستعمر؟
أعادت تجربة السنوات الماضية التأكيد على أن هذه السلطة تبتلع من يستقر في مؤسساتها، وتسلبه القدرة على التفكير النقدي، ويصبح متماهيًا معها. وهكذا ظلت حركة فتح، تحت سلطة محمود عباس، تبتعد عن الإرث التحرّري الوطني للحركة الوطنية الفلسطينية، ومن ثم تحولها إلى أداة طيّعة تُستخدم لحماية الطبقة المتحكمة بالسلطة.
هجرت حركة فتح قوافل طويلة من المناضلين، وفي قاعدتها، الآن، آلاف المستاءين، والغاضبين، وترتفع الاصوات بدون توقف، تنادي بالإصلاح واسترداد الحركة من مختطفيها، ومع ذلك تتواصل عملية التدمير المنهجية، والمخطّطة لهذه الحركة التي فجرت الثورة الفلسطينية بعد النكبة. وهذا التدمير، أي تفريغ فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، من مضمونها التحرري، وتكريسها جزءًا من البنية الكولونيالية، يأتي استجابة لشروط القوى الخارجية، الشروط الأمنية والسياسية والاقتصادية النيوليبرالية. كل ذلك أنتج حالة استبداد غير مسبوقة، حيث يتحكم بمفاتيح السلطة تحت الاحتلال رجل واحد. ومع زيادة الإحباط، وفقدان الدور الوطني الذي تجلّى بأوضح صورة، في الانعزال عن المعركة الشعبية الأخيرة، ومن خلال شن حملة تضليل داخل الحركة وكأن الحركة هي المستهدفة وتتعرض لمؤامرة من خصومها، تظهر غريزة الدفاع عن الذات، وعن الطبقة، فتطلق قيادتها حملة تجييش خطيرة، نحو الداخل، ضد الشعب، فتترعرع ظاهرة الشبيحة، ونصبح أمام نظام عربي آخر، أو أنظمة عربية دمر عجزها، واستبدادها، دولا عربية كاملة.
منذ انتهاء الانتفاضة الثانية، أنتج جيل فلسطيني جديد كمًّا نوعيًا وكبيرًا من الدراسات النقدية، التي تُفكك منظومة أُوسلو السياسية والاقتصادية الطبقية، التي عززت الارتباط بالمستعمر وباتت وسيطًا تخدم المستعمر وتحمي نفسها ومصالحها. وهي بدورها أنتجت أيديولوجيا مناهضة للتحرّر والمقاومة، وشوّهت الوعي الجماعي. وبناءً على هذه القراءة، فإنّ المراهنة على التغيير من داخل سلطة أوسلو أو من داخل حركة فتح المختطفة بنظر كثيرين، هو وهمٌ كبير، يكرّس التعلق به الحالة الكارثية الراهنة، ويُعطل محاولات الحسم، ويؤخر شق طريق ثالث، طريق الإصلاح والبناء من خارج البنى وهياكل السلطة المهترئة، الذي يُمهد لبنية اجتماعية اقتصادية ثقافية، تستند إليها حركة المقاومة الشعبية المتجدّدة.
لا خيار أمام المنادين بالثورة أو بالإصلاح سوى التعويل والعمل على ما حفرته انتفاضة الأمل والكرامة ومعركة القدس عميقًا في الوجدان الشعبي. والمنادون، وهم كثر ومتنوعون، باتوا أكثر ثقة بإمكانية التغيير، الذي انطلق، بلا رجعة.