تمثل الحركة الصهيونية وممارساتها في فلسطين،مزيجا كريهاً من الاضطهاد القومي للشعب الفلسطيني، وعمليات التطهير العرقي، والتمييز العنصري الذي فاق في بشاعته نظام الأبرتهايد العنصري الذي كان سائداً في جنوب إفريقيا قبل أن يسقطه النضال الشعبي وحركة المقاطعة العالمية.
ورغم المعرفة الواسعة بما يتعرض له الشعب الفلسطيني من اضطهاد على يد إسرائيل، فإن غالبية مظاهر وممارسات التمييز العنصري ما زالت خافية على شعوب المنطقة.
وباستثناء حركة “ميرتس” إلى حد ما، فإن جميع الأحزاب الصهيونية تتبنى، وتؤيد، وتشارك في تنفيذ قوانين وممارسات التمييز العنصري، لأن العقيدة الصهيونية بحد ذاتها قامت وترتكز على فكرة أن الحق في فلسطين هو لليهود فقط، وأن أصحاب الأرض الأصليين أي الفلسطينيين هم ” أغيار” يجب التخلص منهم. وفي هذا الإطار يمتزج الفكر السياسي العنصري مع المصالح الإقتصادية الاستغلالية، ومع الميثولوجيا الدينية المحرّفة التي تُستغل ليس فقط لتجنيد يهود العالم لخدمة الفكر الصهيوني، بل ولتجنيد أقسام واسعة من المحافظين وأتباع الكنائس الانجيلية المتطرفة لخدمة الحركة الصهيونية وأهدافها التوسعية السياسية، والاقتصادية، والجيوسياسية.
ويتغلغل التمييز العنصري عبر القوانين الجائرة كقانون القومية، ومراسيم الحكم العسكري الإسرائيلي، وقوانين الطوارئ البريطانية، في كافة مناحي الحياة السياسية والاجتماعية للفلسطينيين، بهدف إستغلالهم، واضطهادهم وخنق موارد حياتهم على أمل دفعهم للرحيل.
هناك أربعون ألف زوجة وزوج فلسطينيين من عائلات أحد الأزواج فيها من أراضي 1948 والآخر من باقي الأراضي المحتلة، محرومين من حقهم في العيش معاً في بيت مشترك، بسبب قانون سنه الكنيست لمنع جمع شمل العائلات، وسقط تجديده مؤخراً بسبب المناكفات بين أركان اليمين الاسرائيلي ولكنه سيعود عندما تطغى هيمنة العنصرية على الخلافات الثانوية. وهناك آلاف أخرى من العائلات التي تحرم من حق العيش تحت سقف واحد، لأن أحد الأزواج من القدس والآخر من الضفة الغربية أو قطاع غزة.
الاعتقال الإداري هو نموذج آخر للتمييز العنصري حيث يمكن أن يُزج بالفلسطيني في السجن لسنوات دون توجيه أي إتهام له، أو إجراء أي محاكمة، والمقرر الوحيد في هذه القضايا ليس القضاة، بل أجهزة “الشاباك” والمخابرات الاسرائيلية. ولا يستطيع الفلسطينيون قهر هذا الاعتقال إلا بالإضراب الطويل عن الطعام الذي يحمل دوماً في طياته مخاطر فقدان الحياة كما جرى مع المناضل الفلسطيني الغضنفر أبو عطوان، الذي أضرب عن الطعام خمسة وستين يوماً ووصل حافة الموت، قبل أن يرضخ الإسرائيليون ويفرجون عنه.
لكن التمييز العنصري يمتد لدوائر أوسع وأعمق من كل ما ذكر. إذ أن هناك ملايين الفلسطينيين ممن فقدوا أرضهم بالاحتلال العسكري، أو الضم والمصادرة، أو تخصيص أراضيهم لبناء المستعمرات الاستيطانية.
وذات المنظومة الإسرائيلية تحرم الفلسطينيين في الضفة الغربية اليوم من 85% من مصادر مياههم، ومن أي قدرة على الوصول إلى مصادرهم الطبيعية.
وهي التي تفرض على سكان غزة البالغ عددهم أكثر من مليوني شخص، حصاراً خانقاً منذ عام 2006، واعتداءات عسكرية همجية تكررت في أعوام 2008 و2012 و 2014 و 2021، وأودت بحياة الآلاف وسببت جراحاً وعاهات دائمة لعشرات الآلاف، وهو حصار يجبر سكان قطاع غزة على العيش بدون كهرباء لثمانية عشر ساعة يومياً وفي بعض الأحيان لاثنين وعشرين ساعة من ساعات اليوم الأربع وعشرين، كما جعل 95% من مياههم ملوثة أو مالحة وغير صالحة للإستعمال الآدمي، وأدى إلى وقوع 80% من الشباب من حملة الشهادات الجامعية في بحر البطالة المستمرة.
معظمنا يذكر كيف كانت قيامة الغرب تقوم، ووسائل إعلامه تستنفر عندما كان الاتحاد السوفياتي يمنع بعض مواطنيه من السفر للخارج، وكيف كان الكونغرس الأميركي والبرلمانات الغربية تتجند لضمان خروج منشقين سياسيين مثل شيرانسكي الذي هاجر لإسرائيل وأصبح من أشد رعاة العنصرية الصهيونية، ولكننا لا نسمع دوياً كهذا تجاه منع 99% من مواطني قطاع غزة من السفر للخارج أو الوصول على الأقل للضفة الغربية، أو القدس العربية المحتلة.
ولا نسمع ضجيجاً حول منع معظم مواطني الضفة الغربية من الوصول إلى مدينة القدس، أو زيارة أقاربهم في قطاع غزة.
ولا نسمع احتجاجات جدية من الحكومات الغربية تجاه الاعتقالات الإدارية، وهدم المنازل ومصادرة الأراضي، والاقتحامات الليلية، أو إعتقال الأطفال، ولا إزاء حرمان مئات آلاف الفلسطينيين من حق البناء على أراضيهم، ومن ثم إجبارهم عندما يضطرون لبناء بيوت بدون ترخيص إسرائيلي على هدم منازلهم بأيديهم، أو هدمها بجرافات الاحتلال وإجبار أصحاب البيوت المهدمة على دفع أجرة هدمها للاحتلال.
لا يوجد اليوم مكان في العالم مثل فلسطين حيث يسود قانونان مختلفان في نفس المنطقة، واحد تفضيلي ومدني لليهود ومستوطنيهم، وآخر عنصري عسكري، وقمعي للفلسطينيين العرب.
لا يوجد مكان في العالم يتكرر فيه قتل المسنين والمسنات، والشباب والشابات، بلا سبب ودون حسيب أو رقيب أو محاسبة لجنود الاحتلال الذين يتنافسون على قنص حياة الفلسطينيين.
ولا يوجد مكان معاصر آخر ارتكبت فيه جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، بما في ذلك جريمة الاستيلاء على وطن شعب بكامله، وممارسة التطهير العرقي ضد 70% من أبنائه وبناته.
وفي حين يتوفر لدى الاسرائيليين بفضل مليارات الدولارات الأميركية وحرية الوصول لكل المنجزات التكنولوجية والعلمية، واحد من أفضل نظم العلاج الصحي في العالم، فإن هذه النظم محرّمة على غالبية الفلسطينيين المقيمين في الأراضي التي يحتلها ويستغلها الاسرائيليون، وإذا ما أمكن لفلسطيني ميسور القدرة على دفع تكاليف العلاج الباهظة، فإن المستشفيات الاسرائيلية تجبره على دفع أربعة أضعاف ما يدفعه الاسرائيلي لقاء نفس العلاج.
يصل دخل الفرد الاسرائيلي سنوياً إلى 48 ألف دولار، في حين لا يتجاوز دخل الفلسطيني 2400 دولار في الضفة الغربية، وحوالي 800 دولار في قطاع غزة، ومع ذلك وبسبب وحدة السوق والجمارك، يُجبر الفلسطينيون على دفع نفس الأسعار التي يدفعها الإسرائيليون مع أن دخل الإسرائيلي يزيد بعشرين ضعفاً عن مثيله في الضفة الغربية وبحوالي ستين ضعفاً عن مثيله في قطاع غزة.
لا يتسع هذا المقال لمواصلة تعداد مظاهر التمييز العنصري، لكن الأحداث أثبتت أمراً قاطعاً، وهو أن هذا النظام لن يسقط أو يزال، بالمفاوضات العقيمة، أو بالوساطات المخادعة، أو بتقديم التنازلات للحركة الصهيونية والتطبيع مع كيانها، لكنه سيزول بالمقاومة الشعبية الفلسطينية الواسعة وبحركة مقاطعة إقليمية وعالمية ، وصمود الفلسطينيين على أرض وطنهم مهما كانت الصعاب.