بعد ثلاثين عامًا على عقد مؤتمر مدريد، وثمانية وعشرين عامًا على توقيع اتفاق أوسلو، تطل علينا استراتيجية “جديدة” تروّج لها القيادة الفلسطينية بدعم كامل من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، ودعم ناقص من حكومة بينيت/لابيد، التي تريد حصرها في الجوانب الاقتصادية والأمنية، وترفض ما قد يُفهم منه إحياء المسار السياسي، فالقرار السياسي الوحيد المقبول إسرائيليًا إبقاء الوضع على ما هو عليه، وفتح المجال أمام جعله أبديًا، والتقدم على طريق إقامة “إسرائيل الكبرى”.
وتنطلق هذه الإستراتيجية من ضرورة إعادة الثقة بين الفلسطينيين والاحتلال الذي يهدم المنازل، ويوسع الاستيطان، ويمارس سياسة تهجير السكان الفلسطينيين، ويستكمل تهويد القدس وأسرلتها، ويواصل الحصار والعدوان على قطاع غزة، وذلك تمهيدًا لإحياء ما يسمى “حل الدولتين”، والمسيرة السياسية المجمّدة منذ العام 2014، في الوقت المناسب الذي لا يعرف فيه أحد متى يحين ذلك.
تدافع هذه الاستراتيجية عن نفسها بالاستناد إلى أن الحكومة الإسرائيلية الحالية هشة ومتطرفة ومعرضة للسقوط، واتفقت مكوناتها على استبعاد القضايا الخلافية، التي من أبرزها أحياء المسيرة السياسية، لذا لا بد من تأجيل إطلاق مبادرة سياسية حتى تنضج الظروف ومنع سقوطها وعودة نتنياهو.
كما يعزز هذه الإستراتيجية أن الإدارة الأميركية ملتزمة بالأمن الإسرائيلي، والحفاظ على التفوق الإسرائيلي، وأنها معنية بإدارة الصراع لا حله، بحجة أن الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي غير جاهزين للحل، كما أنها مشغولة بملفات عديدة، ما يضع القضية الفلسطينية في آخر سلم اهتماماتها.
ولم تغيّر ملحمة القدس في أيار الماضي من هذه الأولويات إلا بصورة مؤقتة وجزئية، حيث تدخل بايدن ووزير خارجيته للتوصل إلى وقف إطلاق النار لمنع لتدهور الوضع، والسعي لتثبيته، وعادت الأمور بعد ذلك إلى ما كانت عليه، مع ترك الملف بأيدي ديبلوماسي أميركي من الدرجة الثالثة، وهو هادي عمرو، ومهمته الحفاظ على الأمر الواقع، وعدم تدهوره، إذ كانت رسالته واضحة للفلسطينيين والإسرائيليين بقوله لهم “السلطة في أسوأ وضع” و”إذا لم تساعدا أنفسكما فلن يساعدكما أحد”.
وحذّر عمرو من اشتعال غابة السلطة الجافة، جراء أزماتها السياسية والشرعية والاقتصادية والمالية، حيث من غير المضمون دفع رواتب موظفي السلطة، وحثّ الاحتلال على مساعدتها حتى لا تنهار، وأوضح لمن التقاه أن كل ما جُمِعَ من أجل إعادة إعمار غزة لا يتعدى 30 مليون دولار، من دون الالتزام بعقد قمة دولية للحصول على الدعم.
وفُهم من عمرو بأن إدارته ستغض النظر عن تأجيل الانتخابات لمدة قد تصل إلى عامين حتى لا تفوز حركة حماس، ولن تضغط على الحكومة الإسرائيلية حتى في موضوع الاستيطان، لأنها ستسقط، وخصوصًا أن البديل عنها أكثر تطرفًا منها.
وفهمت السلطة الرسالة جيدًا، وبدأت تروّج للتركيز على الخطة العبثية التي تسمى إجراءات بناء الثقة، وتتضمن 33 بندًا، وهي ما ترغب السلطة في تحقيقه في هذه المرحلة، وهو يمكن تلخيصه بجملة واحدة: السعي إلى إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 28 أيلول 2000، مع بعض التعديلات الناجمة عن الحقائق الجديدة، وكأن ما كان جيدًا، وليست كارثة مكتملة الأركان، ومع ذلك يعتبر تحقيقها هدفًا بعيد المنال.
فالممكن تحقيقه هو بعض الخطوات الاقتصادية والأمنية في إطار السلام الاقتصادي الذي اخترعه نتنياهو، أي تحسين أو تخفيف شروط الاحتلال مقابل الهدوء، وهذا يخفض السقف الفلسطيني الذي كان يتضمن مسارًا سياسيًا يهدف إلى إنهاء الاحتلال وإنجاز بقية الحقوق الفلسطينية.
في البداية، توهّمت السلطة بإمكانية شروع الإدارة الأميركية الجديدة في إطلاق عملية سياسية أكثر مما يريده رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت، وأقل بكثير مما يريده الرئيس محمود عباس، لتكتشف سريعًا أن هذا وهم، فلا يوجد أفق في المدى المنظور لعملية سياسية، وحتى الوعود الأميركية باستئناف الدعم المالي والاقتصادي وفتح القنصلية ومكتب منظمة التحرير في واشنطن جزئية، وستستغرق وقتًا بسبب المعارضة الإسرائيلية والقوانين الأميركية التي تعرقل ذلك.
ما سبق يعني أن فتح بيت الشرق، ووقف توسيع الاستيطان (لاحظوا كلمة توسيع وليس وقف أو إنهاء الاستيطان)، وعودة السلطة إلى ما كانت عليه، بحيث لا تقتحم قوات الاحتلال المدن المصنفة (أ) كلما ووقتما تشاء، وغيرها من النقاط الواردة في المطالب الفلسطينية المماثلة؛ ما هي سوى أضغاث أحلام وأمنيات وأهداف مستحيلة التحقيق، إن لم تكن نوعًا من ذر الرماد في العيون.
فما تقوم به وما لا تقوم به السلطة نوع من التكيّف والاستسلام للواقع، بدليل التصريحات التي جاءت مؤخرًا على لسان شخصية بارزة مقربة جدًا من الرئيس جاء فيها أن المفاوضات أقصر طريق وأقل تكلفة لإنهاء الاحتلال، وكأن ثلاثين عامًا من الخيبات والتنازلات والكوارث مدة قصيرة ولا تكفي لأخذ العظة والاستنتاج بأن”اللي بجرب المجرب عقله مخرب”، وأن المفاوضات في ظل الاختلال الفادح في موازين القوى وحالة الضعف والتوهان والانقسام الفلسطيني وفقدان الشرعية ستؤدي إلى أسوأ مما حصل، وتشكل نوعًا من شراء الوقت وبيع الوهم، بما يُمَكّن الاحتلال من تطبيق خطط الاحتلال التوسعية الاستعمارية الاستيطانية بسرعة أكثر وتكاليف أقل. فلا بد من إعطاء الأولوية لترتيب البيت الفلسطيني، وجمع أوراق القوة والضغط بما يدفع الاحتلال ومن يدعمه للإنصات للمطالب والحقوق الفلسطينية وتلبيتها.
لقد قبلت السلطة بجعل خطوات بناء الثقة إستراتيجيتها الجديدة، لأنها كما تبدو تعتبر أن أقصى ما تريده أو يمكن تحقيقه هو أولًا الانتظار لعل وعسى تتغير الظروف، بدلًا من التحلي بالإرادة اللازمة والمبادرة بالفعل لإحداث التغيير، وثانيًا الحفاظ على بقائها، وسط تكاثر المؤشرات على أنها معرضة للانهيار أو التغيير أو الاستبدال، خصوصًا في ظل شبح الصراع على الخلافة من دون آلية متفقة عليها، وبعد سلسلة الخطوات الغبية والخطيرة التي قامت بها، بدءًا بحل المجلس التشريعي، ومرورًا بإحكام قبضة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، والعودة عن قرار التحلل من الاتفاقيات، وتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى مع مباركة أميركية إسرائيلية ومن بعض الدول العربية، وعدم اتخاذ موقف بمستوى التحدي بعد ملحمة القدس، وقتل نزار بنات أثناء اعتقاله، والأسوأ كيفية التصرف بعد الجريمة وكأنها تريد تغطيتها في ظل اللجوء إلى قمع غير مسبوق للحقوق والحريات، وأخيرًا فضيحة صفقة لقاح فايزر.
الله يستر من الآتي، إذا لم يتم تدارك الأمر قبل فوات الأوان، إذ يدور الحديث في معظمه في الكواليس حتى الآن عن دعوة المجلس المركزي للانعقاد قبل نهاية العام، وتعديل الحكومة، وجاري البحث في تشكيل مجلس تأسيسي للدولة، وهذا كله نوع من الهروب إلى الأمام بدلًا من التصدي للقضايا الجوهرية، وهذا ما سأتناوله في مقال لاحق.
تقوم سياسة السلطة على شعار تحقيق شيء أفضل من لا شيء، مع أن الذي سيتحقق هو فتات السلام الاقتصادي، وسيكون مقابله ثمن باهظ من التنسيق الأمني وتعميق الاحتلال واستمرار سياسة الضم الزاحف للأرض والحقوق والمقدسات، وهذا أسوأ ما يمكن حدوثه، وهو نوع من الاستسلام للأمر الواقع، لدرجة لا نبالغ بالقول حتى خارطة الطريق الدولية سيئة الصيت والسمعة المطروحة في العام 2003 أفضل، أو الأصح أقل سوءًا من الإستراتيجية الجديدة.
طريق الخلاص الوطني واضحة وضوح الشمس، وهي تشمل بلورة رؤية شاملة يتم الاتفاق عليها في حوار وطني تمثيلي شامل، وليس محدود التمثيل، تنبثق عنه إستراتيجيات متعددة قادرة على تحقيق الأهداف والحقوق الوطنية، من خلال إعادة بناء مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني في السلطة والمنظمة وتغييرها وتجديدها وإصلاحها، عبر تشكيل قيادة مؤقتة تعمل على تطبيق رزمة شاملة بالتوازي والتزامن، وتتضمن إنهاء الانقسام عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية، والتحضير لإجراء الانتخابات على مختلف المستويات والقطاعات وفي مختلف التجمعات الفلسطينية.
ويبقى السؤال: ما الأدوات الضرورية لتوفير مستلزمات الإنقاذ الوطني، ومن يعلق الجرس؟