في يوم 19/7/2021 توفيت المناضلة والأم والمطاردة والأسيرة فاطمة الجعفري أم أحمد، سكان مخيم الدهيشة والمنحدرة من قرية رافات المهجرة، رحلت عشية عيد الأضحى المبارك وفي يوم التورية حيث يتوجه حجاج بيت الله الحرام الى منى ومن ثم الى جبل عرفات حيث الوقفة الكبرى وأداء الركن الأعظم من أركان الحج، وعندما نزل الحجاج عن الجبل انتشروا في جنازة أم احمد وهللوا وكبروا وأكثروا من الدعاء والرحمة على الشهداء ورجم الحجارة.
توفيت أم أحمد في الذكرى الأربعين لاضراب سجن نفحة التاريخي، والذي بدأ يوم 14/7/1980 واستمر 33 يوما، ارتقى خلاله شقيقها الشهيد علي الجعفري والشهيد راسم حلاوة، وفيما بعد الشهيد اسحق مراغة متأثرا بأصابته في الإضراب، بعد أن ارتكبت سلطات الاحتلال مجزرة دموية بحق المضربين من خلال سياسة الاطعام القسري العنيفة والمميتة.
كنا نستعد لإحياء ذكرى ملحمة نفحة في باحة منزلها ككل عام، نشرب قهوتها ونستعيد الراحلين من سنوات الغياب، توجعنا دائما الذكريات، توزع علينا أم أحمد الحلوى، تشم فينا رائحة ابنائها وبناتها واشقائها، كان قلبها ينبض برواية رحلة طويلة، عاشت حياتها صلبة عنيدة، وعاشت آخرتها كأنها شهيدة، وهناك خلف القضبان حررت روحها وعاشت طليقة.
سار موكب جنازتها المهيب في شوارع مخيم الدهيشة، حضر كل ابنائها وبناتها الباقين على قيد الحياة، حملوا التابوت عاليا عاليا، وعندما تفقدوا انفسهم وجدوا انهم ناقصين ناقصين، من يكتب التاريخ ويخط بأسم النساء رواية نهر الحليب يتدفق في اضلاع الفقراء اللاجئين؟
بعد 15 عاما من احتجاز جثمان شقيقها الشهيد علي في ما يسمى مقابر الأرقام العسكرية، استقبلت أم أحمد الجثة المليئة بالدم والسعال والاشارات الأبدية، تفقدت قميصه ومسدسه وكوفيته وصوته المخنوق، فتحت رسائله وكبسولاته، فكت قيوده واعلنت في العالمين وصول أول فوج من أفواج الحرية.
أم أحمد امرأة تسكن على رصيف المخيم، بيتها كان محطة للفدائيين والمطلوبين والمطاردين، كل من يعرفها يخرج ويعود اليها، يأكل من خبزها وزيتها وزعترها، يشرب الشاي بالميرمية، وفي بيتها اجتمعت كل التنظيمات والفصائل والمؤسسات والاتحادات واللجان، ومن هناك اشتعلت المظاهرات والمسيرات، ومن هناك صدر قرار هدم السياج الذي أقامه المحتل حول المخيم، ومن هناك هرب المتطرف الحاقد الحاخام ليفنغر الذي عسكر أمام المخيم، ومن هناك رفعت الأعلام والكوفيات والرايات واشتعلت الإطارات، ومن هناك امتلأت القناني بالكاز والمسامير وانفجرت انتفاضة أطفال المخيمات.
أم أحمد ودعت مئات الشهداء واستقبلت آلاف الأسرى المحررين، كلمة السر امرأة تسمى فاطمة الجعفري، الكل يزورها، الأحياء والأموات، عاشت وماتت وهي تنتظر، انتظرت شقيقها الشهيد علي سنوات سنوات، وانتظرت شقيقها الآخر محمد والذي لازال جثمانه محتجزا منذ عام 1969، طرقت كل أبواب مؤسسات حقوق الإنسان الدولية، نادت عليه في لحظات حياتها الأخيرة، لم تكتمل عودة الشهداء الى حضنها، لازالت الصور تبكي على الجدران.
وصفتها المحامية القديرة فيليتسيا لانغر بأنها امرأة أقوى من الفولاذ والحديد، تعبت المحامية وهي تبحث عن فاطمة الجعفري، تارة في المسكوبية وتارة في بيتح تكفا وتارة في سجن الخليل، لم يحصل المحققون على كلمة السر، انهار المحققون، لم يستطيعوا أن يفككوا الشيفرة المتداولة في المخيم وهو (لمعة) لقب أم أحمد، وقد اعتقدت المخابرات الاسرائيلية ان لمعة هو تنظيم سري أو اسم حركي، هو موعد عملية أو لقاء يضم كل اللجان النسوية، لمعة صار حزبا او شعبا ونبوءة أنثوية.
دوهم منزل أم أحمد مئات المرات من قبل قوات الاحتلال، نبشوا الفراش والتراب والحيطان، وجدوا بئرا مليئا بالأسلحة، شجرة صنوبر عتيقة علقت على اغصانها طائرة ورقية تستعد للانطلاق، من هنا تأتي التعليمات والاشارات والبيانات، قال الضباط الاسرائيليون، اعتقلوا أم أحمد وزوجها وأولادها وأولاد الجيران، تحول بيتها الى ثكنة عسكرية مفتوحة دوما لجنود الاحتلال.
كلمة السر امرأة اسمها فاطمة الجعفري، وقفت في الساعة الثانية صباحا من يوم الثلاثاء 22/7/1980 في قاعة الغذاء الاجباري في سجن نفحة، بأم عينها رأت أخاها علي يواجه عنفا جسمانيا وصاحب ذلك دس أنبوب التغذية الاجبارية في الرئة، سعال وقيء وصعوبة في التنفس، وظلت فاطمة فوق رأسه حتى اللحظة الأخيرة .
كلمة السر امرأة اسمها فاطمة الجعفري، وقفت في الساعة الرابعة فجرا في غرفة التغذية الاجبارية في سجن نفحة، رأت راسم حلاوة يتعرض للضرب والتهديد، حشرجات في الصدر، انفاس متقطعة، روح تزهق أمام ناظريها، اطباء يمارسون القتل والجريمة.
كلمة السر امرأة اسمها فاطمة الجعفري، انفجر قلبها، انفجرت الذاكرة، لأن سجن نفحة لم يعد ذلك المبنى المسلح بالموت والمسيج بالأسلاك وكاميرات المراقبة، صار نفحة هذا الوطن المعزول والمقسم والمحاط بالجدران وبالحواجز العسكرية، لازال الشهداء يتعذبون هناك، لم تغلق غرفة الأطعام القسري حتى الآن، دخل كل الشعب الفلسطيني اليها، وطن تنهب جسده الجرافات والمستوطنات والرصاص، المجزرة مستمرة.
كلمة السر امرأة اسمها فاطمة الجعفري، أم المناضلات والبنات الرائعات، ما أكبر الجنازة، ما أوحش المقبرة، لن نجدها الآن في الشارع، في الاعتصام والمسيرة، في بيت الشهيد، وخيام التضامن مع الأسرى، لن نشرب قهوتها ونستمع الى دعائها وهي تترضى علينا، تبحث عنا اذا ما غبنا قليلا، انطفأت الساعة، من يوقظ فاطمة الجعفري ليحرك من حولنا عقارب الحياة.
في الوقت الذي شيعت فيه المرحومة فاطمة الجعفري أم أحمد، عزف كشافة نادي هلال القدس النشيد الوطني الفلسطيني فدائي في باحة باب العامود وسط طوفان بشري من العائلات المقدسية وذهول وصدمة من قوات الاحتلال، وبعد فوات الوقت ادرك الاسرائيليون العلاقة بين أم أحمد ومرابطات وحارسات القدس من النساء، زغرودة في الجنازة هنا في مخيم الدهيشة، وهناك في القدس دعاء ومقاومة في الصلاة.