روى لنا آباؤنا أنّ "تراكتور جندير" شقّ عام 1948 الأرض التابعة لقريتنا وقرى أخرى واقعة في مرج ابن عامر إلى نصفين غير متساويين، نقل النصف الأكبر منهما إلى "الكيبوتسات" التي كانت قائمة في المنطقة، رغم أنّ بعضها يبعد بضع كيلومترات. ولا تزال هذه "الكيبوتسات" تستولي عليها حتى اليوم، حيث يفصل شارع ترابي بين الأرض التي كانت وبقيت لنا، وبين الأرض التي كانت لنا ونُهبت عنوة عام 1948.
"الكيبوتسات"، التي شكّلت المستوطنات الأولى في المشروع الكولونيالي الصهيوني تسيطر بواسطة المجالس الإقليمية، التي تنضوي تحتها إلى جانب "القرى التعاونية"، على 86% من أرض فلسطين سابقا، التي باتت تعرف بأرض الدولة ونقلت إليها بالطريقة التي ذكرت آنفا وطرق سطو أخرى، لأن ما تم شراؤه من أرض حتى عام 1948 لا يتجاوز الـ 6% من أرض فلسطين.
في مقال نشرته "هآرتس"، مؤخرًا، تحت عنوان "نهب تحت رعاية الدولة - المشترك بين ’الكيبوتسات’ والمستوطنات" يرى الباحثان هني زبيدة وبيني نورييلي من قسم العلوم السياسية في كلية "عيمق يزراعيل"، أنّ المشترك بين الفئتين هو أنّهما مجموعتا أقلية منزوعتا الصلاحية القانونية تديران اقتصاد الحيز الخاضع لسيطرة دولة إسرائيل، الذي يسكنه فلسطينيون ويهود هاجروا من الدول العربية والإسلامية، وذلك بواسطة طرق قديمة تدمج بين العنصرية والتهميش.
"الكيبوتسات" وهي، كما يقول الباحثان، "الطلائع القديمة" تغزو الأراضي الزراعية بواسطة البناء الصناعي والخاص، تتوسّع وتحيّد الفئات السكانية غير المرغوب فيها خارجا... والمستوطنون، "الطلائع الجديدة"، المتحصنون برعاية الاحتلال يغزون بواسطة "الأنوية التوراتية" مدنا فقيرة...ويحيدون غير المرغوب فيهم (العرب والشرقيين) ويسيطرون على موارد المدينة.
وإذا كانت "الطلائع الجدد" (المستوطنون) قد ظلمت قياسا بـ"الطلائع القدامى"، حيث نقلت الدولة لسيطرتهم 13% فقط، من أراضي الضفة الغربية المحتلة مقابل 86% لـ"الطلائع القدامى" ("الكيبوتسات")، وبهذا المعنى فإن غزو مدن الداخل الفقيرة (المدن المختلطة)، هو برأي الباحثان استيفاء لرأس المال، بينما هو برأينا مد أذرع الاستيطان الديني إلى الداخل لاستكمال المهمات التي لم ينجزها الاستيطان العلماني الذي يرمز إليه "الكيبوتس".
فالحركة الاستيطانية الجديدة، التي تقودها الصهيونية الدينية، انطلقت في الأراضي المحتلة عام 1967 وتمركز نشاطها الاستيطاني هناك، إلا أنّها ترى بنفسها مكملا ووريثا للحركة الاستيطانية في عموم فلسطين، ولهذا السبب تمركزت من خلال ما يسمى بـ"الأنوية التوراتية" في قلب المدن الفلسطينية التاريخية، يافا وعكا واللد والرملة، إلى جانب مشاريعها الاستيطانية في الجليل والنقب، وخلقت بذلك قاعدة وبنية استيطانية عامة ترى في فلسطين الكاملة مشروعا كولونياليا واحدا.
وفي وقت يكمل فيه عمليا المستوطنون الجدد أبناء الصهيونية الدينية ما بدأه المستوطنون القدامى أبناء "الكيبوتسات"، في إطار نفس المشروع الكولونيالي، فقد نجح هؤلاء، كما يقول الكاتبان، في بناء هويات مختلفة تظهر وكأن أبناء "الكيبوتسات" وأبناء المستوطنات يمثلون معسكرين متنافسين، يسارًا ويمينًا.
ويبدو للوهلة الأولى أنّ نمط الحياة، والنظرة إلى الذات، والموقع الجغرافي والأحزاب التي يدعمها كل طرف، إلى جانب مستوى التديّن والخطاب وحتى الطرق التي يمارسها كل طرف في تفكيك المجموعات المختلفة في المجتمع – التوسّع مقابل التسلل إلى المدن، لا تعكس المبنى والامتيازات التي تتيح وتشكّل أساسا وجوديا لكل من أبناء "الكيبوتسات" والمستوطنين، لأن الاختلاف في الهويات يغطّي على المصالح والامتيازات الأساسية المشتركة بينهما، وهي السيطرة على الحيز الذي يمكنهما من السيطرة على السكان وعلى أجهزة الدولة.
وفي هذا السياق، يصبح "الكيبوتس" و"المستوطنة" و"النواة التوراتية"، كما يقول الباحثان، عبارة عن مصانع كبيرة لإدارة النهب والسيطرة على الناس – يهودًا وعربًا - والتسبب بخسائر اقتصادية واجتماعية للفلسطينيين واليهود من مهاجري الدول العربية والإسلامية. وإذا كنا نحن "المغفلين" الفلسطينيين، كما وصفتنا مؤخرًا أييلت شاكيد، قد خسرنا الحرب، التي لم تقع عام 1948، وتوجب علينا أن نواصل دفع الثمن لبقية حياتنا، فإن ذنب المهاجرين اليهود من الدول العربية والإسلامية أنهم جاءوا من هناك.