هناك أحداث أو تصريحات تمر مرّ الكرام أمام ناظر الجماهير العربية الفلسطينية دونما اكتراث، وبالذات لأنها تأتي ضمن بيانات إعلامية عابرة، ولا يتوقف عندها الإعلام الإسرائيلي. في حين لو توقفنا عندها لرأيناها ذات أبعاد شديدة الأثر وأحيانا مصيرية تجاه الحاضر والمستقبل. لقد توقفت هبّة أيار ببعدها الشعبي مع توقف العدوان العسكري الدموي على شعبنا، إلا أن مفهوم الهدنة أو وقف إطلاق النار لا يعني توقف العدوان بمفهومه الأوسع، ولا يعني أن الدولة هدأت أو توقفت مخططاتها. فالعدوان والقمع الخارجي والداخلي هما استمرار لسياسة الدولة وأداة من أدواتها الكثيرة، في حين يشكلان الحدث المفصلي بالنسبة للضحايا.
في الأحداث المفصلية هناك أهمية قصوى لقراءة سريعة للمستجدات ولتقييم حقيقي للوضع، وبناء عليه تخطيط الخطوات القادمة وتعديل استراتيجيات العمل بما يقتضيه. تقوم الدولة بذلك ليست لأنها أكثر ذكاء من جماهير شعبنا، بل لأنها تملك كل الأدوات والأجهزة ومنظومة المؤسسات لمعاينة وتقييم ما تسميه الأمن القومي، وهو أمن قومي عدواني. وفي هذه المؤسسات يجتمع كمّا كبيرا من خيرة الأدمغة وأصحاب وصاحبات الخبرات متعددة المجالات، فإلى جانب التخصصات الأمنية يكون هناك تخصصات في علم النفس الاجتماعي والمجالات القضائية والاقتصادية والمالية والدبمغرافية والإعلامية وغيرها، لتشكل جميعها أدوات لمنظومة ضبط متكاملة، سواء للمدى القريب والذي ينعكس عادة في سياسة القمع والترهيب والردع الجماعي منه والانتقائي، وهذا الأخير هو الأكثر أثرا، وعلى المدى البعيد من خلال ما يمكن أن نطلق عليه الهندسة الاجتماعية وهندسة الوعي من خلال التأثير على بنيته. فالترهيب السياسي ليس اعتباطيا، بل عقلانيا وهناك خط منهجي يسير عليه، ولو نظرنا معمقا في طبيعة الاعتقالات منذ أيار/ مايو وحتى اليوم فإن طابعها استخباراتي أكثر منه شرطويا بالمفهوم التقليدي. إن هذا الأمر يعكس مسعى لمضاعفة أثر فعل الدولة، كما أنه في المقابل يعكس واقعا تهاب فيه الدولة سياسيا من مواجهة شاملة مع الجماهير العربية الفلسطينية تلتقي مع مواجهة الشعب الفلسطيني كله، وذلك نتيجة للضرر السياسي الذي يلحق بالمنظومة الحاكمة، وبمنظومة الضبط التي يشرف عليها جهاز الأمن العام (الشاباك) ومجلس الأمن القومي الإسرائيليين.
بعد أن خرجت جماهير شعبنا بشعور من الانتصار أو وقفة العز، فإننا لم ننجز الخطوة التالية المطلوبة أي تقييم الوضع والاستعداد لكل السيناريوهات التي قد تسلكها الدولة. فلم نخطِ خطوات نحو المستقبل بل اكتفينا أحزابا ومؤسسات في التفكير بالوضع الآني. حتى الحراكات الشعبية والشبابية، التي أشغلت موقعا رياديا في التصدي للعدوان الدموي علي جماهير الشعب، نجدها قد بدأت تهمد وهناك تسارع في عملية تآكل ما راكمته بسرعة دون تطوير أفق سياسي لدورها العظيم والمبدع. ولا نجد الأحزاب تقوم بتوفير الأفق السياسي الشعبي، بل انكفأت أكثر من قبل، في وقت يتطلب دورها المتجدد والمنفتح. هذه الوضعية قد تتحول إلى أزمة بدلا من انطلاقة، وقد تكون اندثارا لما أنجزته جماهير الشعب. هناك مقولة باتت مبتذلة وهي أن لا فراغ في السياسة، وحيث لا تكون انطلاقة سياسية مبنية على الهبة الشعبية، فيحدث التراجع للمدى البعيد، وهي الحالة لزيادة نفوذ الدولة متعدد الأشكال.
حدث مؤخرا أن تمّ الكشف عن أمرين يقعان ضمن ما كان يجري التعامل معه كأسرار دولة في السابق، الأول، هو التسريبات من قيادة الشرطة بأن الشاباك يمنع الشرطة عمليا من المس بأقطاب الجريمة المنظمة العرب. أما الثاني فهو الإعلان عن النقاش الدائر بين الشرطة والجيش حول أنجع الطرق لقمع العرب بناءً على هبة أيار الأخير، وبالذات في المدن الساحلية. في حين يضاف إلى هذا التصريح المتكرر للمفتش العام للشرطة، كوبي شبتاي، بأن "سعة الأحداث في المدن المختلطة قد فاجأت الشرطة" كما يضيف بأن سرعة وتيرة تفاعل الأحداث وانتشارها جغرافيا، كانت مربكة للشرطة. وهو يعزو ذلك إلى قدرة التحكم الشعبي وبالذات الشبابي في وسائل التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و"واتس أب" و"تيك توك". حيث نقلت الدولة من خلال وزير الأمن وحدات "حرس الحدود" من الضفة إلى الداخل لقمع العرب بحيث زاد عدد هذه الوحدات المدججة بأسلحتها ومنظوماتها عن 3 آلاف جندي. أما الخطوة التالية التي تشير لها الدولة فهي توفير بنية ذات جهوزية عالية للجيش للتدخل في قمع المظاهرات وفي القيام بالدور الذي لا تستطيع الشرطة القيام به. ففي مقدمة مركبات عقيدة الجيش الدفاع عن الدولة في وجه العدو، وفي هذا إشارة إلى كيفية تعاطي الدولة مع مواطنيها الفلسطينيين. كما أن إقامة قوة تدخل عسكرية تعني بالإضافة لما ذكر إعلان حالة طوارئ واستخدام واسع لأنظمة الطوارئ. ولو ترجمنا أيضا مفهوم تدخل الجيش في قمع المظاهرات، فهذا يعني أن القمع سيكون أكثر دموية. هذا الوضع ليس الأول من نوعه، فقد تم استخدام الجيش في سعي الدولة لقمع إضراب يوم الأرض عام 1976 في قرى البطوف. بينما الحديث الآن عن منظومة متكاملة في هذا الصدد. كما أن المستهدف اليوم من حيث الأولويات الإسرائيلية هم العرب في المدن الساحلية وذلك بسبب موقعهم ومكانة هذه المدن في الرؤية الصهيونية. فهذا الحضور القوي في نقطة التماس الأولى مع المجتمع الإسرائيلي تعتبرها الدولة مسألة أمن قومي.
إن النهج المركزي للدولة في التعامل مع فلسطينيي الداخل، على الأقل في العقد الأخير، هو تفكيك البنية السياسية لهذا المجتمع، ضمن مخططات الضبط والهيمنة وهندسة الولاءات، وهذا من شأنه أن يكون الاستراتيجية المفضلة لدى الدولة في ضمان ضعفنا، وفي فك الارتباط مع القضية الفلسطينية وأيضا في فك الترابط الداخلي كمجتمع والنيل من مؤسسات سياسية تمنحه الصفة الكيانية، وبالذات لجنة المتابعة كإطار جامع وتحييد دورها. كما لو طرحنا السؤال، هل بتنا كمجتمع اليوم أقوى بعد مواجهات أيار، لا اعتقد أن عملية مراكمة منهجية قد تمت في هذا الصدد، وهل هناك تحولات سياسية فعلية في الحالة الفلسطينية الواسعة ومساع لتوفير بنية استدامة العلاقة بين مركبات الشعب الفلسطيني؟ أعتقد أنه لم تكن سوى اجتهادات أشارت إلى هذه الفرصة لكن لم يجرِ استغلالها البتّة لا على مستوى الفصائل ولا الأحزاب والقوى الوطنية.
مشكلتنا ليست في القراءة السياسية، بل بالأساس كما أرى الأمور في القطيعة ما بين القراءات السياسية والخطوات الجماعية، وفي القطيعة ما بين قراءة الوضع الآني والانتقال إلى خطوات قائمة على قراءة المستقبل والتحديات التي يحملها، كما تنقصنا الأدوات التي من شأنها أن تتيح ذلك.
لا أملك تصورا حول كل ما ينبغي عمله، ولا أعتقد أن مثل هذا التصور متوفر لدى أحد. لكن هناك خطوة أولية من شأنها أن تتيح ذلك، هي استحداث هيئة تخطيط سياسي، أي إطار يوازي مجلس الأمن القومي الإسرائيلي أو مراكز السياسات والأبحاث في هذا الصدد. فلا يكفي اجتماع رؤساء الأحزاب لوضع السياسات لمجتمع، بل هناك ضرورة لاستحداث هيئة سياسات بعيدة المدى في إطار لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، تعتمد على الاجتهادات العديدة القائمة فعليا في المجتمع الفلسطيني سواء المؤطرة منها وغير المؤطرة، حتى ولو كانت هيئة ذات طابع استشاري، لكن بشرط أن تكون قائمة بنيويا وبشكل منتظم في إطار لجنة المتابعة، والإشراك الشعبي لما تتوصل إليه.
لقد خطت الدولة خطوات في أعقاب هبّة أيار، بينما نحن توقفنا جماعيا عند أيار، وللأسف!.