في الإجابة عن هذا السؤال هناك أسئلة لا بدّ ان تسبق، وهناك أسئلة ستلحق.
يبدو الناس في تونس، وفي العالم العربي منقسمين بين من أيدّ ويؤيد إجراءات الرئيس التونسي، وما بين من عارض ويعارض هذه الإجراءات.
وهناك من يرى ان الرئيس قد انتظر وتأخر، وهناك من يرى ان الرئيس ما كان له ان يتدخل أصلاً، لأن مهمته هي مهمة تنحصر او تكاد في المراسيم والمراسم، وكان عليه ان يلتزم الصمت، وان يجلس في قصره بعيدا عن السياسة وأهلها..!
وعندما أقدم الرئيس على كل ما أقدم عليه تحولت الأمور الى دائرة التصنيف، واصبح الأمر كله او يكاد يدور حول المسميات والتوصيفات، اهو انقلاب أم لا؟
هل يحق للرئيس ان يقوم بما قام به أم لا؟
هل هو إجراء دستوري أم إجراء ضد الدستور؟
هل هو مؤقت أم مؤقت سيتحول الى دائم؟
هل سيخرج الإجراء تونس من الكابوس، ومن الأزمة الخانقة أم ان الإجراءات ستعيد البلاد الى مرحلة ما قبل سقوط نظام بن علي؟؟
ماذا عن دور الجيش وقوى الأمن؟
هل هناك من ضمانات للعودة الى الديمقراطية أم لا؟
وهناك الكثير الكثير من الأسئلة التي سترد تباعاً، وستتوالى مع تطورات الحدث التونسي.
لكن الأسئلة الأهم، على أهمية كل هذه الأسئلة ونحن في الواقع أمام وفي خضم مرحلة الأسئلة بالذات، ولسنا بصدد إجابات ملموسة عنها .. الأسئلة الأهم هي تلك التي تتعلق بمواقف أطراف معادلة الصراع في تونس، وخصوصا ردة فعل حزب النهضة وأعوانه، ومواقف القوى التي تستحسن إجراءات الرئيس، او تتفهمها، حتى ولو رأت ان من حقها وواجبها المطالبة بضوابط كافية حول هذه الإجراءات، وبقيود على مداها الزمني، وبضمانات وآليات للتراجع عنها في اقرب فرصة وعند أول مناسبة سياسية مواتية.
لمحاولة الإجابة الأولية - الإجابة بالمجمل - عن هذه الأسئلة ربما نحتاج الى العودة قليلاً الى الوراء، والى قراءة الحدث التونسي كمسألة تونسية وليس كسؤال تونسي، وذلك لأن النموذج التونسي قد تحول فعلا الى مسألة منذ ان تصدّر مشهد «الربيع العربي»، وحتى وصل اليوم الى ما وصل إليه.
الذي حصل في كل ثورات الربيع العربي ان الحركة الشعبية العارمة، والاحتجاجية المثابرة والشجاعة، والتي عبرت عن توق وطني كبير للانعتاق من أنظمة الفساد والاستبداد قد جرى في نهاية المطاف اختطافها او ركوب موجتها او مهادنتها والالتفاف عليها من قبل قوى عديدة منها الخارجية ومنها الداخلية.
لكن الصورة الأبرز في هذا الالتفاف والاختطاف كانت تتمثل في دور جماعات الإسلام السياسي.
لا يستقيم الحديث عن دور الدولة العميقة في إجهاض هذه «الثورات» طالما ان إحدى نتائج هذه الثورات هي انها استهدفت الدولة، وحاولت تفكيكها، وقد لجأت الى الإرهاب للوصول الى هذا الهدف، ولجأت واحتمت بالخارج في بعض الأحيان، واستندت الى الكثير من الأبعاد (العرقية والطائفية والمذهبية) وهي أبعاد ما فوق وطنية، وبالتالي فإن الإجهاض قد جاء على يد القوى التي اختطفت والتفّت وزورت إرادة الناس، وحاولت وما زالت تحاول توظيف معاناتهم لصالح مشاريع خاصة، وليس لصالح مشاريع تحررية وتنموية وطنية.
وبالعودة الى واقع ما حصل في سورية والعراق ولبنان واليمن وليبيا وتونس ومصر فإننا أمام نفس المشهد، ونفس الأدوار، ونفس المشاريع.
نفس محاولات الالتفاف، ونفس محاولات الاختطاف، نفس التوظيف ونفس التوليف. نفس الشعارات والبكائيات عن الثورة ونفس الوسائل والأساليب عن محاولات الاستئثار والاستثمار، نفس المشاريع ونفس الأهداف وتكاد تكون نفس الآليات.
الرئيس التونسي ليس علمانياً مثابراً، وليس من مخلفات الدولة العميقة، وهو رجل مستقل ويميل من الناحية الفكرية الى طيف واسع من الإسلاميين غير الحزبيين، كان معارضاً ولم يكن مهادناً، وهو أكاديمي مرموق في حقل القانون والدستور.
حزب النهضة الذي حصل على تأييد شعبي كبير منذ الانتخابات الأولى التي أعقبت الإطاحة بنظام بن علي فشل في تقديم نموذج ديمقراطي، وفشل اكثر في تقديم نموذج تنموي.
تراجع ثم عاود التقدم في تراجع ثم عاود الى تقدم أقل.
فقد الهيمنة ولكنه امسك باستراتيجية التعطيل والتكبيل، حتى ولو على حساب المصالح المباشرة والحيوية للإنسان التونسي.
عطل مصالح البلاد والعباد وادخل البلاد في معادلة مُرعبة:
- دولة فاشلة.
- اقتصاد مدمر.
- أزمات اجتماعية متفاقمة.
- التغطية على الفساد.
- تكبيل القضاء، وإجباره على التستر على عمليات القتل والاغتيال.
هذا هو المشهد الذي كان أمام الرئيس التونسي عشية اللجوء الى الإجراءات الأخيرة، وفي ظل تفاقم الأزمة الصحية وانهيار النظام الصحي.
ليس هذا فحسب، فقد حاول الرئيس على مدى عدة شهور ان يخرج البلاد من هذا الواقع، وطلب وطالب بأن تتحمل كل الأطراف مسؤوليتها الوطنية، لأن الأزمة وطنية وخطيرة، ماذا كان رد حزب النهضة وأعوانه؟: «الزم حدودك»، «واقبع في قصرك»، «هذه ليست صلاحياتك».
لم يكن لرجل عالم في شؤون القانون الدستوري، مستقل وذي اتجاه ديني مستقل ومعتدل، له تأييد شعبي كاسح ان يلجأ الى أي إجراءات لتعطيل الحياة الدستورية، لولا انه قد وصل من خلال عمل مضن ومثابر ومع كل الأطراف، وبكثير من الصبر والتروي .. لولا انه وصل الى ان البلاد قد دخلت في مأزق وطني كبير وخطير، يهدد بقاء الدولة، ويهدد بدمار النسيج الوطني والاجتماعي في البلاد.
ومع ذلك كله، قام الرئيس بالاتصال مع رئيس مجلس النواب، ومع رئيس الوزراء، ومع قادة الجيش والأمن، واخبرهم بشكل واضح وصريح ولا لبس فيه بأنه سوف يستخدم صلاحياته التي يخولها الدستور في المادة الثامنة كإجراءات مؤقتة الى حين خروج البلاد من هذا المأزق الخطير.
ولأن النظام السياسي في تونس هو نظام مفخخ (على حد تعبير احد المراقبين)، ولأن صلاحيات الرئيس موجودة في المنطقة الرمادية ما بين نظام سياسي رئاسي وبرلماني ونظام مختلط، ولأن هذا الواقع بالذات اصبح يهدد البلاد والعباد من خلال انه يتحول الى ذريعة لمنع الرئيس من ممارسة أي صلاحيات حقيقية، فقد بادر الرئيس واتخذ كل الإجراءات بكل مسؤولية وطنية وبكل شجاعة، ودون تردد، وبعد ان استنفد كل الصبر الممكن، وبعد ان وصلت الأزمة الى اخطر وأعلى مراحلها.
لذلك أيها السادة ليست المسألة في التصنيف والتوصيف، وفيما إذا كانت تونس أمام انقلاب أم غيره.
المسألة التونسية باعتبارها النموذج الأول «للربيع العربي» هي مسألة العرب كلهم، مسألة مآل الثورات كلها، مسألة دور الإسلام السياسي في لي عنق هذه الثورات، ومسألة إعادة هذه الثورات الى اصل أهدافها في الحرية والكرامة والتحرر الوطني والاجتماعي، وفي العدالة التي غابت مرة على ايدي أنظمة الفساد والاستبداد، ومرة على ايدي أصحاب مشاريع دولة الشريعة ودولة الخلافة المقنعة والمغطاة ببكائيات كاذبة ومزيفة عن ثورات كان دورهم الحقيقي فيها هو الالتفاف والاختطاف.
ليس مهما إذا ما كانت إجراءات الرئيس تسمى انقلابا او تصحيحا، او تعديلاً، او أي مسميات وتصنيفات أخرى، لأن المهم هو ان هذه الإجراءات قد أتت لأسباب اضطرارية وليست رغبة في الحكم او الاستئثار به لأن الرئيس التونسي ليس بحاجة الى أي شيء من هذا القبيل.
ما كان يحتاج إليه الرئيس التونسي هو ان تتحلى الأحزاب التي مارست الإفشال والتعطيل وأدخلت البلاد في أزمة خانقة بالحد الأدنى من المسؤولية الوطنية.
الرئيس حاول وحاول وصبر وانتظر فلم يجد أمامه سوى الاستعداد لحرق البلاد والعباد وتدمير الدولة والمجتمع، وقد تدخل في اللحظة الحاسمة ولو انه لم يفعل لتحمل وزر ومسؤولية نتاج هذه الأزمة الوطنية الكبيرة.