لا يمكن إلا تأكيد أن ما قام به جنود الجيش الإسرائيلي من جرائم قتل مكثفة في أراضي الضفة الغربية، في الأيام القليلة الماضية، هو بحد ذاته غاية موضوعة نصب أعينهم، على الأقل منذ تولّي رئيس هيئة الأركان العامة الحالي، الجنرال أفيف كوخافي، مهمات منصبه يوم 15 كانون الثاني/ يناير 2019، فقد كُتب في ذلك الوقت أنه “ذو نزعة قوة أكبر”! وسرعان ما برهن على ذلك في خطابه خلال مراسم تسلّم منصبه، وفي “الأمر العسكري اليومي” الذي نشره في أول يوم له قائدا للجيش، عبر وعده بأن يوجّه جلّ جهوده لـ”تأهيل جيش فتّاك وناجع ومتجدّد”، مضيفًا أن التغيير الذي يتطلع إلى الإتيان به سيتمحور حول تعزيز نزعة الفتك من جهة، ومزيد من تعدّد أذرع العمل العسكري من جهة أخرى.
كما أثبت نزعة جعل الجيش الإسرائيلي أكثر فتكًا من خلال ترقية ضابطين تقرّر في قيادة الجيش تجميد رتبتيهما: قائد “لواء جفعاتي” عوفر فينتر، الذي حثّ جنوده على أن يعتبروا الحرب على قطاع غزة عام 2014 حربًا دينية، تهدف إلى تحقيق حسم ضد عدوٍ كافرٍ يحاول تحقير آلهة إسرائيل.
وفي حينه جرى التنويه، من بعضهم، بأنه حتى وإن لم تُرتكب جرائم الحرب على مرّ التاريخ وفي تاريخ حروب إسرائيل بفعل أوامر دينية فقط، فإن إزالة الموانع أمام ارتكاب مثل هذه الجرائم يغدو أسهل، عندما يتم تصوير الحرب بأنها دينية ضد أناس كفّار.
فضلًا عن ذلك، بمجرّد تصوير الحرب ضد غزة بوصفها جزءًا من حرب دينية يستقر في لا وعي الجنود المقاتلين، إن لم يكن في وعيهم التام، أنه لا يجوز وقفها إلا من خلال تحقيق الحسم، وكل الوسائل للوصول إلى هذه الغاية شرعية.
والضابط الثاني هو رومان غوفمان، وكان من أشدّ المعترضين على تراجع استعمال سلاح المدرّعات وقوات الجيش البرية في المواجهات مع الفلسطينيين في أراضي 1967 ولا سيما في قطاع غزة.
وينسحب الفتك الإسرائيلي الذي يدفع به قائد هيئة الأركان الإسرائيلي على صادرات دولة الاحتلال الأمنية، التي سلطت الضوء عليها مُجدّدًا فضيحة برمجية التجسّس “بيغاسوس” التي تنتجها شركة NSO الإسرائيلية، والمستمرة في التفاعل دوليًّا.
وقد لا يتسع الحيّز هنا إلا لأن نعيد التذكير بما يلي: في بداية عام 2020 ضمّت NSO إلى صفوفها الرئيسة السابقة للرقابة العسكرية (إحدى أذرع شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي)، وأوكلت إليها منصب “مديرة وحدة العلاقات مع الجمهور”.
بعد ذلك بأيام معدودة، جنّدت الشركة رئيس طاقم وزارة الدفاع، الذي عيّنه وزير الدفاع السابق، أفيغدور ليبرمان، لمنصب “مدير قسم السياسات الدولية” في الشركة. وقبل ذلك بشهرين كانت الشركة أنهت تعاقدها مع مكتب العلاقات العامة الذي كانت تتعامل معه، وانتقلت إلى مكتب آخر هو MFU، الذي يملكه عوديد هرشكوفيتش، نائب الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي سابقًا. وفي مجرّد هذا ما يجسّد شراكة الطريق بين هذه الشركة والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
وفقًا للمحامي إيتاي ماك، وهو أبرز ناشط لزيادة الشفافية والإشراف العام على التصدير الأمني الإسرائيلي، فإن معظم الحكومات الإسرائيلية تتبع، منذ سبعينيات القرن الفائت، سياسة واحدة، تتمثل بشراء مؤيدين عن طريق تزويدهم بالسلاح الفتّاك.
وأول من اتبع هذه السياسة كانت حكوماتٍ توصف بأنها “يسار”، فمثلًا في فترة ولاية حكومة يتسحاق رابين كانت إسرائيل ضالعة في تشيلي والأرجنتين، وكذلك في رواندا والبوسنة والهرسك، وهي أماكن ارتُكبت فيها جرائم رهيبة ضد المدنيين.
كما أن جميع الذين عملوا في هذا المجال هم جنرالات كبار ينتمون تاريخيًا إلى “مباي”، الحزب الذي أسّس إسرائيل وحكمها حتى عام 1977 ومنه انبثق حزب العمل الحالي، فقد كان هناك جنرالات انتقلوا إلى السياسة وآخرون ذهبوا إلى الصناعات الأمنية… وفي نهاية الأمر، اليد الواحدة تغسل الأخرى.