منذ كنا صغاراً اعتدنا على سماع المقولة، إن مصر هبة النيل، وهي التي تعني بأن النيل جعل من الصحراء واحة، بل وكان سبباً في نشوء واحدة من أهم الحضارات القديمة في العالم، وفي لغة السياسة، النيل يعتبر سبباً وجودياً للدولة المصرية، نقول هذا الكلام، بمناسبة الحديث المتصاعد معه الخلاف والى حد ما التوتر بين ثلاث من أهم دول الشمال الأفريقي، ونقصد مصر والسودان وأثيوبيا، حيث نشأ الخلاف منذ بدأت إثيوبيا بتنفيذ مخططها الخاص بإقامة سد النهضة على أرضها، بما يهدد الحصص المائية لما يسمى بدولتي المصب، أي مصر والسودان.
يكاد ملف النهضة يشبه بطريقة ما أو من زاوية ما الملف النووي الإيراني، من جهة أن دولته ترى فيه سبباً حاسماً للتنمية الوطنية، فيما يراه الآخرون سببا لتهديد أمنهم الوطني، والحقيقة أن أفريقيا كلها أو بمعظمها، وليست إثيوبيا وحسب، رغم أنها تمتلك أهم أنهار العالم، وأكبر كمية مياه، إلا أنها تعاني من الفقر والجوع، كذلك تعاني من التخلف، حيث من المتوقع أن ينتج سد النهضة كهرباء تكفي العديد من الدول الأفريقية، وفي الوقت الذي يوفر مالاً غزيراً لأديس أبابا جراء تصدير الكهرباء لغيرها من الدول الأفريقية، فإنه سيساهم في دفع التنمية والتطور في تلك الدول الأفريقية، نظراً لأن الطاقة الكهربائية ضرورية لتشغيل كل أدوات العصر اللازمة في الإنتاج وفي الحياة العصرية للناس.
لأجل هذا فإن دولتي المصب، مصر والسودان لا تعترضان من حيث المبدأ على حق إثيوبيا في إقامة السد، وهما في واقع الأمر، كل منهما لديها سدود خاصة بها على أراضيها تنظم نسبة تدفق الماء في فصول السنة المختلفة، حماية للأرض الزراعية على ضفتي النهر الذي يغذي الكثير من أراضي السودان، ويجوب مصر من جنوبها إلى شمالها، لكن خشيتهما في المقابل مشروعة، من أن تؤدي إقامة سد النهضة إلى الإخلال بحصتيهما من المياه والتي لا تحتمل النقصان، بل تحتاج للزيادة في ظل الجفاف وارتفاع درجات الحرارة المتزايدة في العالم، والزيادة المطردة في عدد السكان.
لذا كان الحوار ضرورياً بين الدول الثلاث، وليس الحوار وحسب، بل والاتفاق المرضي لكل الأطراف، وحيث أن الحوار قد جرى بينها منذ فترة، فإن إثيوبيا اتبعت لعبة الحوار الممتد الذي لا ينتهي باتفاق ملزم، في الوقت الذي تواصل فيه بناء السد، لتفرض سياسة الأمر الواقع، وبالتالي تتحكم هي فيما يخرج منه من مياه لدولتي المصب، وهذا أمر لا يمكن قبوله من كل من مصر والسودان، اللتين لجأتا إلى ما كان بين الدول الثلاث من اتفاقيات خاصة بحصص المياه بينهم، لكن إثيوبيا متعللة بأن تلك الاتفاقيات تعود لعهد الاستعمار البريطاني الذي كان يحكم تلك الدول، ترفض صراحة الاحتكام لتلك الاتفاقيات، كذلك رفضت اللجوء لمجلس الأمن، ومن قبله رفضت التوقيع على الاتفاق الذي تم التوصل إليه بالرعاية الأميركية.
ولجأت الأطراف إلى الاتحاد الإفريقي، الذي فشل في التوصل لحل مرض للأطراف الثلاثة، لذا لجأت دولتا المصب، مصر والسودان اللتان ما زالتا تظهران صبرا ورباطة جأش، وتحاولان منع تدهور العلاقة وصولا للحرب مع أثيوبيا، لمجلس الأمن، الذي من مهمته أن يحقق الأمن في العالم، لكن المفاجئ أن مجلس الأمن قد رد طلب مصر والسودان، وأعاد الملف للاتحاد الأفريقي.
هنا ظهرت الأصابع الإسرائيلية العابثة بالأمن الأفريقي، والتي تنسجم مع الأطماع الإسرائيلية أولاً في مياه النيل، والتي عبرت عنها بصراحة حين كانت تحتل سيناء، عبر اقتراحها على مصر التي رفضت المقترح في ذلك الوقت، والخاص بتحويل مياه النيل لتصب في صحراء النقب، بدلاً من البحر المتوسط، وثانياً في التوغل بالقارة الأفريقية، لترث الاستعمار القديم، في القارة السمراء التي ما زالت تعاني من الفقر وضعف التنمية، آملة بتسويق المال والتكنولوجيا وحتى السلاح الإسرائيلي في دول القارة السمراء.
يبدو أن إسرائيل مارست نفوذها على الولايات المتحدة العضو دائم العضوية في مجلس الأمن، ليرد طلب مصر والسودان، بتحكيمه في الخلاف مع أثيوبيا، وذلك مقابل الثمن الذي جاء سريعا، من خلال إعلان مفوض الاتحاد الأفريقي ومقره أديس أبابا، منح إسرائيل عضوية المراقب في الاتحاد، وذلك من وراء ظهر أعضاء الاتحاد وفي خرق واضح لدستوره وقراراته المتواصلة الداعمة للحقوق الوطنية الفلسطينية.
التدخل الإسرائيلي في الشأن الأفريقي، وبالتحديد في الخلاف حول سد النهضة، ينذر بإشعال حرب بين الدول الأفريقية الثلاث، وأكثر من ذلك بشق الاتحاد، وتبديده في النهاية، والذي جاء لحماية شعوب أفريقيا من التدخل الخارجي، عبر وحدة الموقف الأفريقي، وحل الخلافات بين الدول أعضاء الاتحاد فيما بينها، ولإسرائيل سوابق عديدة بالتحالف مع كل خصوم الدول العربية، خاصة الدول المركزية في العالم العربي، وفي مقدمتها مصر بالطبع، التي تسعى إسرائيل دائما، للنيل من قوتها ونفوذها العربي والأفريقي.
وكما فعلت في ملف التطبيع العام الماضي، أي عقد الصفقات، بتحقيق المكاسب السياسية عبر تقديم خدمات معينة لدول التطبيع تلك، فيما يخص ملفات خاصة بها، تحتوي على مشكلات إقليمية، إن كانت الإمارات والبحرين مع إيران، أو المغرب مع الصحراء، أو السودان مع الموقف الأميركي الذي كان يعتبرها داعمة للإرهاب، فعلت إسرائيل الأمر ذاته مع أثيوبيا فقايضتها بدعم موقفها الخاص بالسد، وإغلاق الباب أمام اتخاذ مجلس الأمن موقفا مؤيدا لحقوق مصر والسودان في مياه النيل، مقابل عضوية المراقب لإسرائيل في الاتحاد الأفريقي.
وإسرائيل لها علاقات مشبوهة مع أثيوبيا حين اتفقت معها على تهريب الفلاشا، وفي الحرب مع أرتيريا، لذا فإن إقدام الجزائر ومعها سبع دول عربية، على الاعتراض على قرار المفوض الأفريقي منح إسرائيل عضوية المراقب، لدولة الاحتلال الإسرائيلية، يعتبر فعلاً مقاوماً لنزعة الاستعمار الإسرائيلي، التي تنتشر طولاً وعرضاً في الشرق الأوسط وفي أفريقيا، وهكذا يتأكد يوما بعد يوم بأن الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين يبقي عليها كدولة مرشحة لوراثة الاستعمار القديم، بما يهدد شعوب الشرق الأوسط وشعوب أفريقيا وربما شعوب العالم بأسره، في أمنها ومصالحها ومستقبلها، ولهذا فإن مواجهة هذه النزعة باتت واجبة على الجميع.