هي، ابنة كمال وثريا الفاتح، ظلت طفولتها تلقي ظلالاً على حاضرها ومستقبلها جسدياً ونفسياً واجتماعياً وروحياً، أُمها من أسرة صوفية من الهلالية، قرب الخرطوم، ووالدها رفيق يساري، خريج الجامعات الروسية. تتعلم بمدرسة خاصة أجنبية، تظهر موهبة في الكتابة، تساعدها مكتبة والدها على الاستزادة من الثقافة. تشكلت اجتماعياً وفكرياً من هذه البيئتين اللتين تبدوان متناقضتين، لكنهما تآلفا في شخصيتها. تسمح للبيئة أن تشكلها عندما كانت تزور بيت جدها لأبيها.
هو، ابن آمنة والفاتح، من شندي، تلقى تعليمه العالي كطبيب في روسيا، مثل والدها، تأثر بوالدته بشكل كبير، ارتبط بعلاقة مع امرأة روسية، يترك موسكو بعد تخصصه في جراحة التجميل، ويعود الى الخرطوم، ليفتح عيادة.
يجمعها القدر في عيادة طبيب أسنان، الطبيب والصحافية، يرتبطان، ويتزوجان، لتبدأ فصول جديدة لها علاقة بما كان من ماض لكل منهما، يزيد من حالة الاغتراب بينهما، يزيد ذلك ما جدّ من عمل طبي ملتبس، رغم ما درّ عليه من دخل مالي حسّن من حياته الاقتصادية.
هما، جاءا من بيئتين مختلفتين فكرياً، وإن تشابهتا اجتماعياً وثقافياً، يلتقيان كزوجين، لكن الذي يؤثر سلباً على علاقة زواجهما أمر خارج البيئتين، هو أمر نفسي عاطفي جسدي بالنسبة له، حيث يظل تأثير نتاليا الروسية عليه، فلم يستطع الفكاك منه، رغم حبه لغفران. وهو أمر جسدي ونفسي وعاطفي بالنسبة لها، حيث لم تكتمل حياتهما الجنسية كما ينبغي، بسبب الختان الذي تعرضت له طفلة. إضافة لعقدتها النفسية من عالم الرجال.
إن تكوين الزوج-الحبيب-الذكر المادي، وتكوين «غفران» الرومانسي الجمالي كامرأة، ووعيها على هذه المفارقة، وسلوك دكتور «خالد» الشبق تجاهها طلباً لمتعة كاملة، رغم ما به من حب وحنان، قد زاد من تأثير العامل الطبيعي (الختان)، أي كأنها تعرضت لختان في الجسد والشعور والذاكرة.
تدخل الرواية فيما بعد في تشويق بوليسي ما، بسبب عمل الدكتور خالد، يجعل من عمله الملتبس كابوساً عليه، ينتهي بنهاية صادمة.
لعل رواية «آماليا» للكاتبة والشاعرة مناهل فتحي حسن، قد نحت نحو تصوير المجتمع ونقده، خصوصا النقد السياسي الخفي والظاهر، الذي نمى فيه الفساد، محميا من النظام الذي لبس لباس الدين لنيل المشروعية. وفي الوقت نفسه، راحت تنتقد ساخرة للمظاهر الاجتماعية التي تسلب المرأة جزءاً من جسدها، من خلال الختان، لحماية شرفها.
أما باقي الرواية، فهي تصوير جميل وحميم للحياة السودانية، التي تتفاعل فيها هويتها العربية بالأفريقية من جهة، والإسلام السياسي بالمد اليساري الذي ظهر في الثمانينيات كأيدولوجيتين متناقضتين.
69 شخصية، تلاقت وتفاعلت، وإن كان أكثر ورد في حادثة واحدة أو مر كاسم سريع، حيث يخشى القارئ/ة التشتت، ولكن من خلال السرد، يكتشف ان الرواية تقوم على غفران وخالد، وعلاقة كل منهما بأسرته ومكان الإقامة الأصلي، وتداعيات الماضي، زمانياً ومكانياً خصوصاً لدى خالد في رحلته الشمالية الى روسيا في الشمال البارد.
تبدأ الرواية بالرجوع إلى الماضي، بمشهد الختان، والذي يبدو أنه سيظل مؤثراً على الشخصية في مراحل متعددة في حياتها، قبل الزواج وبعده. ثم تذكر الأب كمال في الفصل اللاحق، وموته وما استتبع ذلك حضور بلد ابيها «شندي» سواء بحضور العزاء، أو بتذكر طقوس «الرحمتات» الرمضاني، ثم عودة إلى الوراء أكثر، لسرد لقاء الأب كمال بالأُم ثريا، ومقتل الأب في دكانه على يد جنوبيين. فذهاب غفران للمدرسة، وحبها للكتابة لما تراه من ظواهر خصوصا في فضاء المرأة كجلسات القهوة، وبداية تحررها، من خلال اللغة ورمزية خلع غطاء الرأس.
ثم تنتقل الكاتبة بنا إلى روسيا، نقلة مكانية نوعية، حيث تبدأ بتعريفنا بشخصية خالد الذي يتعلم الطب هناك، والذي يرتبط بعلاقة مع نتاليا. يظهر في هذا الجزء منظور خالد للعلاقة مع نتاليا، المتأثر بشرقيته من جهة، إلا أنه يخفي عدم تقبله لممارسات معينة منها. يتعرف هو على روسيا الطبيعية والتاريخية من خلالها كدليلة سياحية، في حين لا يتحدث عن بلده السودان الا عندما تطلب منه، خصوصاً أن لديها اهتماماً بالمشرق العربي، وهنا يظهر فهمه للهوية السودانية كمزيج عربي وأفريقي.
يختار بعد الانتهاء من البكالوريوس تخصص جراحة التجميل متأثرا بإصابة أمه بسرطان الثدي. يترك خالد الشمال الروسي البارد ويعود الى السودان، ذلك الجنوب الحارّ.
ثم يأتي الحدث المفصلي، وهو لقاء غفران بخالد، يقعان في الحب، وخلال ذلك يستدعي خالد تذكارات الماضي في روسيا، وبالطبع تحضر نتاليا وجانب من مجتمع الطلبة السودانيين الذكور، وأثر المرأة من الجانب المادي-الجنسي.
تتوج العلاقة بزواج، ويحدث ما يحدث من توترات الجسد والروح، في حين يضع خالد طاقته في العمل، وينتقل لعمل جديد مع مدير المستقى دكتور تاج، يتعلق بزراعة الأعضاء، حيث كان دوره هو قص الأجزاء من داخل الأجساد، بمباركة الحكومة من خلال وزير الصحة.
هنا يخف حضور غفران، في حين تظهر الفصول اللاحقة تحسن وضعه المالي وانتقاله لفيلا، وتظهر شكوكه في عمله المتعلق بعمله، وتطارده الكوابيس في الصحو، ما يزيد من تعثر العلاقة الطبيعية المتعثرة أصلا مع غفران، هي بسبب الختان القديم، وهو بسبب الختان الحديث الرمزي المتعلق بضميره.
وأخيراً، في لحظة صحو متأخرة لضمير دكتور خالد، ينهي خالد حياته، كقربان يكفر به عما فعله مع أجساد السودانيين، في عملية زراعة الأعضاء، التي تمت المتاجرة بها وبيعها للخارج.
خلال ذلك، حفلت تلك الفصول ببوح ذاتي لغفران وتمرد وسخرية، عبر فهم عميق وإنساني للمكان وأهله، وحفلت الفصول بالروائح والملامس والأطعمة وطقس الزار. كما تظهر فلسفة إنسانية حول الجمال والتجميل، وأثره على المرأة. كما ارتبط بسرد الأحداث ضمن هذه البنية نقد النظام الاجتماعي والسياسي، والمؤسسة الدينية التقليدية خصوصا مثال الكرامات. كما حفلت أيضا بنقد الصورة النمطية للمرأة، كما في تقييمها بناء على مدى إتقانها لصنع الشاي الثقيل.
كذلك، وفي مجال النقد الاجتماعي، فقد تم نقد التنميط الجوي، ما بين «الهلالية وشندي، فغفران (الكاتبة ربما) تورد نقد خالها عبد الخالق لأهل شندي من باب التنافس، حيث تعلق على الأمر في نهاية الفصل، بأن التنميط الاجتماعي-الجوي، يرتبط بالعلاقات، وأن الأمر «يتعلق بالزواج وخلط الأنساب» ص88، وقد عكس هذا التفكير النقدي-الناقد لدى غفران، وللرواية أيضا للمجتمع ونظام الحكم.
بالمجمل، نستطيع الزعم بأن الشكل الفني هنا، وفق ما ذكرنا، قد عبّر عن المضامين، بشكل إبداعي، بخاصة في موضوع الضمير السارد. لقد كانت الشخصية النسوية (غفران) تحت تأثير حالتها النفسية، فجاء سردها كمونولوج تصالحي تفريغي، ونقدي بما تضمنه من بوح وتمرد. أما شخصية «خالد»، فأيضا كذلك، بمعنى أن ما بداخلهما لم يخرج للعلن الاجتماعي، بل ظل مكتوماً داخل كل منهما، لذلك أزعم ان الحالة النفسية اقتضت ذلك، أي المضمون النفسي هنا استدعى وتطلب الضمير المتكلم، وايضا الرسالة الى الغائب (الأب المتوفي).
كنت الشخصيات النسوية هي المسيطرة بدءا بحبوبة فاطمة، وآمنة وبشكل أقل هدى الفاتح والعمة ليلى. فبينما ركزت حبوبة فاطمة وليلى على التعليم، فقد كان لنتاليا دور تنويري وجمالي، أثّر عميقاً على شخصية خالد، فإذا أضفنا الأم آمنة، نستطيع التعرف على الكيفية التي تم تشكيل شخصية خالد فيها، عبر الارتباط المكاني مع الأم والسودان، والحنين الدائم لروسيا ونتاليا. لقد اختار هو اسم آماليا أصلا للتعبير عن آمنة ونتاليا، بالرغم من أنه أمل في فترة أن تلتقي الشخصيتان في غفران.
إن فيزياء العلاقات هنا بشكل عام اعتمدت على تأثير المرأة اجتماعياً وثقافياً وعاطفياً على الرجل، في مقابل أن فيزياء تأثير الرجل كان قادماً إما من النوستالوجيا، من خلال الحنين للأب، وإما من العلاقة الفاترة، وامتد النقد تجاه الرجل حتى الى قصة الحرامي، الذي بسبب الحرمان من الحب فقد دخل في تحولات غير متوقعة.
ما بين الجهات في بلادها «الهلالية-شندي»، وما بين الشمال في روسيا والجنوب في السودان، وما بين جهات الفكر والوجدان، تنقلت بنا الكاتبة، من خلال نص ممتع ومشوق ولغة جميلة، أرادت فيه النقد والبوح في آن واحد، مركزة على المؤثرات في حياة الرجل والمرأة، على تنوعها جسديا وعاطفيا، التي يطول تأثيرها، فيصبح الإنسان أسيراً لها. أما النقد الاجتماعي، ونقد الفساد، فجاء في سياق نقد الحكم الشمولي المتأسلم.
انها رؤية ناقدة بشكل حاد لمنظومة انتهاك الجسد والروح، بداية من جسد المرأة، ومرورا بأجساد البشر، وصولا لجسد الوطن وروحه.
وقد أوحت الكاتبة بأن القيم الإنسانية والروحية والأخلاقية غير مقتصرة أبداً على أيديولوجيا معينة، منتصرة إلى جوانب العدالة والتحرر والناحية الروحية والتي يمكن أن تجتمع في البشر، حتى وإن كانوا من مشارب أيديولوجية مختلفة، يصعب أن تجتمع فيها تلك القيم، كما في شخصية خالد الشيوعي، والذي لم ينفك عن القيم الروحية. كذلك، فإن الكاتبة أيضا أوحت بأن الإنسان يخضع لتكوينه المتعدد، كحال ثريا وغفران مثلا، بما تأثرتا به من صوفية وفكر يساري، وأن الأهم ليس المشرب الأيديولوجي بل الخلقي-الضميري. وهذا ما دفع بخالد الى الانتحار، بينما جعل الحرامي يختار الحياة للبدء من جديد، فهناك دوما بداية جديدة خاصة مع يقظة الضمير.

* صدرت عن دائرة الثقافة بإمارة الشارقة في الإمارات العربية المتحدة. وهي الرواية الفائزة بالمركز الثالث بجائزة الشارقة للإبداع العربي في مجال الرواية، الإصدار الأول، الدورة 21، 2017/2018. وقد وقعت في 244 صفحة من القطع المتوسط.