أثارت الأخبار المختلطة بالإشاعات عن تعيين عدد من أبناء كبار المسؤولين وأقاربهم في وظائف دبلوماسية رفيعة، عاصفة من الاحتجاجات على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي المجالس وبعض وسائل الإعلام وحتى في بيانات بعض الفصائل والمؤسسات الأهلية، للتعارض الصارخ بين هذه الأنباء وبين مبادىء الشفافية والجدارة والنزاهة من جهة، ولتزامنها وحداثة عهدها مع موجة الانتقادات الحادة التي طالت نمط الأداء الدبلوماسي واغترابه عن الخطاب الوطني الفلسطيني، خلال المواجهات الأخيرة والحرب الرابعة على قطاع غزة، وذلك أدى إلى تسليط الأضواء على ممارسات بعض الدبلوماسيين وانشغالهم بالتجارة على حساب واجباتهم، فضلا عن الخلافات الحادة التي كثيرا ما تنشب بين السفارات ومؤسسات الجاليات.

هذه التطورات طرحت على بساط البحث والتشكيك أيضا، مدى حاجتنا لكل هذه السفارات ومصاريفها الباهظة وخاصة في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة، لا سيما وأن دولة الاحتلال التي تملك أضعاف ما نملك من إمكانيات بعشرات المرات، عملت على تقليص سلكها الدبلوماسي من أجل خفض النفقات، بينما نستطيع نحن الفلسطينيين، ولأننا ما زلنا في مرحلة التحرر الوطني الاعتماد على جالياتنا ومؤسساتها المنتشرة في كافة أرجاء العالم لإيصال رسالتنا كحركة تحرر وشعب مناضل وليس كجهاز سلطوي يهتم بالمظاهر البروتوكولية اكثر من اهتمامه بجوهر مهمة تمثيل الشعب الفلسطيني.

التعميم ليس مفيداً، وقد يجحف بحق الدبلوماسيين المخلصين والمتفانين في مهماتهم، ولكن من المفيد أن نعود بالأمور إلى أصلها حين كانت بعثات التمثيل الفلسطيني هي بعثات لتمثيل منظمة التحرير، وجميعنا يذكر استهداف ممثلينا ورؤساء بعثاتنا من قبل الاستخبارات المعادية بالاغتيالات والتصفيات، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الشهداء محمود الهمشري وعز الدين القلق ونعيم خضر وغيرهم كثيرون.

لكن العمل السياسي والدبلوماسي اتخذ بعداً جديداً بعد اتفاق اوسلو وقيام السلطة، ثم إتباع البعثات الدبلوماسية لوزارة الخارجية، ومحاولة إلحاق متابعة الجاليات بوزارة الخارجية نفسها التي أصبح اسمها وزارة الخارجية والمغتربين. ولعل هذه الخطوة هي جزء من سلسلة طويلة من الخطوات يمكن ان نصنفها تحت مسمى “تغوّل السلطة على منظمة التحرير الفلسطينية وابتلاعها ” مع أن السلطة هي نتاج المنظمة وناشئة بقرار هذه الأخيرة.
معروف أن اتفاق أوسلو انطوى على جملة من العيوب والثغرات باعتراف من وقعوا الاتفاق وهندسوه، وقد ساهمت هذه العيوب والنتائج السلبية المعروفة، في إضعاف الحق الفلسطيني في عدد من الملفات الفلسطينية المركزية وأبرزها القضايا المؤجل نقاشها لمفاوضات الوضع الدائم، وبالتحديد قضايا القدس والاستيطان واللاجئين والمصير النهائي للأراضي الفلسطينية، والمياه. والطامة الكبرى أن المرحلة الانتقالية التي كانت مدتها محددة بخمس سنوات انتهت منذ 22 عاما، ولم يحن بعد موعد النقاش الجدي لتلك الموضوعات المؤجلة، بل إنها تركت فريسة للإجراءات الإسرائيلية الاحادية الجانب والهادفة لتغيير الحقائق وفرض وقائع جديدة ليسلم بها المجتمع الدولي بمن فيه نحن الفلسطينيون، بينما يلهث المسؤول الفلسطيني لمطالبة الاحتلال بعودة الأمور إلى ما قبل تاريخ 28 ايلول / سبتمبر من العام 2000 تاريخ اندلاع الانتفاضة الثانية.
بعض الآثار السلبية الناشئة عن الاتفاقات لم تكن بسبب نصوصها، ولا بسبب القيود التي فرضها الاحتلال بموجبها، وإنما نتاج التطبيقات والمصالح والمسارات التي نشأت وتراكمت بعد قيام السلطة، ومن ضمن ذلك تهميش منظمة التحرير الفلسطينية، وهي الإطار الرسمي والشرعي المعترف به لتمثيل الشعب الفلسطيني، وعنوان وحدة هذا الشعب في كافة أماكن تواجده، والإطار الائتلافي الجامع الذي يفترض به أن يمثل مظلة لجميع القوى والاتجاهات والمؤسسات الفلسطينية.

ولا يقتصر تأثير ابتلاع السلطة للمنظمة على الجوانب الإدارية والإجرائية، لكن العملية تمس بالحقوق الوطنية التي قامت المنظمة من أجل تحقيقها، وتمس كذلك بالفئات والتجمعات الفلسطينية التي تمثلها المنظمة حصراً، ولا تملك السلطة أي تفويض أو صفة لتمثيلها.

خلال السنوات الماضية طرحت مرارا وتكرارا شعارات ومطالب تفعيل منظمة التحرير وإصلاحها، وإعادة بنائها. بل اتخذت قرارات إجماعية في هذا الشأن خلال اجتماعات الحوار الوطني، لكنها ذهبت أدراج الرياح أو بقيت حبراً على ورق، فما زالت المنظمة جسما وجاهيا واعتباريا، لها مبنى أنيق وفخم وغير معروف على نطاق واسع، ولكنه أصغر من أي مؤسسة أو وزارة جدية من مؤسسات السلطة، ودوائر المنظمة ليست في الحقيقة أكثر من مكاتب لأعضاء اللجنة التنفيذية، وبالتالي هي تضم مجموعات صغيرة من السكرتيرات والمرافقين والمساعدين الإداريين وموظفي العلاقات العامة، لكنها تحديدا لا تفعل شيئا تجاه الصفات المنسوبة لها، كما هي حال الدائرة العسكرية والأمنية، ودائرة التربية والتعليم، ودائرة العلاقات العربية، ودائرة شؤون المغتربين، ودائرة المنظمات الشعبية، ودائرة حقوق الإنسان المستحدثة، فضلا عن الدائرة السياسية التي كانت من أنشط الدوائر وأكثرها أهمية، لكن صلاحياتها انتزعت منها واحيلت لوزارة الخارجية.

الآن منظمة التحرير هي جسم مغيب ومهمش، ولا يجري استدعاؤه إلا عند الحاجة، بينما السلطة عالقة في أزمة سياسية واقتصادية وإدارية شاملة لا مخرج منها لأن دولة الاحتلال تدفعها دفعا إلى دور مرفوض وطنيا هو دور الوكيل الأمني للاحتلال، وعلى الرغم من تهميشها، فإن منظمة التحرير هي الجسم الوحيد الذي يمثل جميع الفلسطينيين أينما كانوا وليس سكان الضفة وغزة فقط، وهي الجسم المعترف به رسميا ودوليا، ولا مخرج لهذه الأزمة إلا بإصلاح منظمة التحرير وتفعيل دوائرها ودمقرطتها وإخضاع جميع مؤسساتها للرقابة الشعبية والمؤسسية ورقابة مجلس وطني جديد ومنتخب، وفي الوقت نفسه إعادة صياغة وظائف السلطة باقتصارها على الجوانب الخدمية وتعزيز صمود الشعب تحت الاحتلال، عندئذ تكون البعثات السياسية والدبلوماسية لمنظمة التحرير بعثات كفاحية ونضالية تتطلب مواصفات تناسب المهمات المنوطة بها، وقد تعرض المكلفين بها لمخاطر جمّة، وليست مجرد مواقع ومناصب رفيعة وباذخة يحتكرها كبار المسؤولين لأبنائهم.