عندما فتحت صفحات موسوعة " معتقل الخيام القصة الكاملة" التي اعدها واطلقها تجمع معتقل انصار ولجنة المتابعة لدعم المعتقلين ومركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب، وجدت امرأة بذاكرة حية، أسيرة محررة خرجت من بوابة مخيم شاتيلا ووصلت الى بوابة مخيم الأمعري، تحمل رسالة الى الأسير المريض ناصر أبو حميد والى والدته ام الشهداء والأسرى خنساء فلسطين ام يوسف أبو حميد، اختصرت الزمان والمكان والمسافات والقت التحية على الاف الاسرى والاسيرات الفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال، الجلاد هو الجلاد، السجن هو السجن، الشهداء هنا والشهداء هناك، الدماء واحدة، الأغاني واحدة، شعب لا يموت ويرفض ان يموت.
هي الأسيرة الفلسطينية المناضلة المحررة كفاح عفيفي، سكان مخيم شاتيلا في لبنان والمنحدرة من قضاء حيفا، تم اعتقالها بعد اصابتها بجروح بليغة خلال تنفيذها عملية عسكرية في جنوب لبنان عام 1988، قضت 7 سنوات في معتقل الخيام وحررت من السجن عام 1995، كان عمرها 18 عاماً لتكون أصغر معتقلة في السجن في ذلك الوقت، تناولها المخرج اللبناني المرحوم جان شمعون في فيلمه الشهير ارض النساء، والذي عكس تجربة المرأة الفلسطينية في الحياة النضالية والسياسية وتخطيها جدران السجن والمجتمع لتكون القائدة والشريكة وصوت الحقيقة.
التقيت بكفاح عفيفي وزوجها الأسير المحرر محمد رمضان في بيروت عام 2017، اخذتني كفاح الى سجن الخيام الذي قبعت فيه سنوات طويلة، وبرغم هدم السجن على يد الطائرات الإسرائيلية بعد اندحار قوات الاحتلال من الجنوب عام 2000 الا ان كفاح اعادت بناء السجن في ذاكرتها وكلماتها، وقفت هناك، كان جسدها يرتعش وقلبها ينتفض، بكت بحرقة، هنا شبحوها وعلقوها وضربوها ونكلوا بها، هنا عذبوها بالصعقات الكهربائية وبالجلد بالكرباج، هنا عزلوها وجوعوها وعطشوها، هنا سالت دماؤها وهنا صرخت وصمدت وكتبت للعالم أجمل أغاني الحرية.
اشارت كفاح بيديها الى ممرات السجن وباحاته، الى الزنازين الضيقة والى ساحة التعذيب والقهر والسلخ واللطم والشتم والاذلال، رأيتها تنطق بأسماء 400 أسيرة من النساء الفلسطينيات واللبنانيات اللواتي اعتقلن في تلك الفترة، رأيت الدماء، بقايا شعر وسعال ونزيف، آثار محققين وعملاء لقوات الاحتلال تركوا انيابهم منغرزة على الأجساد والحيطان والهواء قبل ان يفروا منهزمين أمام الصمود والشجاعة والمقاومة وتحرير أسرى سجن الخيام.
المناضلة كفاح عفيفي تصل مخيم الامعري تحفظ أسماء كل الاسرى والاسيرات الفلسطينيات، تحمل صور أشقائها الشهداء يوسف وخالد وعثمان، اجتازت الحدود والسياج والحواجز وحقول الألغام، وصلت الشمال الفلسطيني بعملية فدائية بهدف احتجاز جنود إسرائيليين ومبادلتهم بأسرى فلسطينيين، وصلت البحر المتوسط، وصلت مخيم الامعري، هي رائحة فلسطين، وهي التي نامت على أصوات المدافع وصحت على رائحة البارود والمجازر، هي التي رأت الموت الاف المرات، هي الشاهدة على الاقتحامات والمداهمات والبطش وغضب اللاجئين في المخيمات، خرجت من المذبحة هناك الى المذبحة هنا، قفزت عن الاسلاك الشائكة وتجاوزت حدود المستوطنات تحمل قنبلة وأمنيات، ترتدي كوفية وإرادة على خطى دلال المغربي وربيحة ذياب وخالدة جرار وسهى بشارة ولمياء معروف وزهرة قرعوش وتيريز هلسا وسميحة خليل وعائشة عودة وزكية شموط، والمئات من النساء اللواتي كتبن اسم فلسطين بالحب والثورة والدماء.
كفاح عفيفي تجلس في بيت ام يوسف أبو حميد، لا أحد يمنعنا من العودة قالت كفاح، جئت باسم شهداء تل الزعتر ومخيم البارد ومعتقلي أنصار والخيام، جئت باسم الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية واللبنانية خلال الاجتياح لبيروت عام 1982، جئت من قلعة شقيف ومن خندق علي أبو طوق، جئت باسم الثكالى واليتامى واللاجئين والمشردين والمفقودين، باسم مسيرة شعب لازال يضحي من اجل الحرية والكرامة وحق تقرير المصير.
أخذتني كفاح الى المتحف الذي يحتوي الى مقتنيات سجن الخيام، قمصان الاسرى والاسيرات، القيود والخربشات والرسومات، تفاصيل الاقبية السرية، مواقع سقوط الشهداء الاسرى بسبب التعذيب، هنا كنا، هنا تعذبنا، هنا انشدنا، هنا شهقاتنا وذكرياتنا واشواقنا، هذه رسائلنا المصادرة، احلامنا المسيجة، هنا انتفضنا وثرنا بوجه السجانين وانتزعنا حقوقنا ولم نركع.
أصرت كفاح عفيفي ان تزرع معنا شجرة زيتون وفاء لروح الشهيد الأسير رائد الصالحي ابن مخيم الدهيشة الذي استشهد خلال فترة زيارتنا لبيروت، على نهر الليطاني وتحت قلعة شقيف الشامخة وفي بلدة مرج عيون غرسنا الشجرة، كان سلاما دافئا من أرض المقاومة الى ارض فلسطين، سلام من الشهداء الى الشهداء ومن الاسرى الى الاسرى، كل شيء كان يفيض: الكرامة والبحر والنهر والذكريات ومجرى الماء.
تزوجت كفاح عفيفي من الأسير اللبناني المحرر محمد رمضان والذي قضى 9 سنوات في قسم الرجال في سجن الخيام، أحب كفاح كان يسمع صوتها، يكتب لها بطرق سرية، حطم الجدران، عانقها، تزوجها على السياج، اخذها من تحت وابل الرصاص وصنوف التعذيب وأطلق من قلب الموت زغرودة الزفاف.
اخذني محمد رمضان الى حيث كان يقبع في السجن، وعلى احد الجدران المهدومة قرأت اسمه محفورا بأظافره، وقصيدة اهداها الى كفاح قائلا في خاتمتها: انتظريني في بيروت، لن ينتصر السجن علينا، نحن لن نموت، كانت عيناه تدمعان وصوته يكاد ان يختنق وهو يروي حكاية سقوط 20 شهيدا داخل السجن، كانت جريمة بشعة، أطفال وكبار في السن وشبان، الضرب بأعقاب البنادق وبالعصي والهراوات، الركل بالبساطير المدببة والدعس على أجساد المعتقلين، معتقل الخيام هو معتقل المسكوبية، هو عسقلان والجلمة وحوارة وشطة والنقب وعوفر ونفحة، وجوه السجانين متشابهة، منظومة القمع واحدة.
كفاح عفيفي في بيت الأسير ناصر أبو حميد تطمئن على وضعه الصحي حيث يعاني من امراض خطيرة، القتل الممنهج في سنوات المؤبدات وغياب العدالة الإنسانية، الإهمال الطبي والاستهتار المتعمد بحياة وأرواح الاسرى والاسيرات، اعتقال الأطفال القاصرين، الاعتقالات الإدارية التعسفية، القمع والعزل واستخدام الوسائل العنيفة المحرمة دولياً، سياسة الإرهاب الإسرائيلية والاعدامات الميدانية وجرائم الفصل العنصري وغياب المحاكمات العادلة، تخطت إسرائيل كسلطة محتلة حدود الكون في العدوان والحرب على القيم والثقافة والاتفاقيات الإنسانية والدولية.
كفاح عفيفي في مخيم الأمعري، قريبة من القدس، قريبة من بيت الأسير الشهيد قاسم أبو عكر ومن بيت الأسرى سمير أبو نعمة وعلاء البازيان واسراء جعابيص، هي في الشيخ جراح وسلوان والعيساوية وباب العامود، هي في الصلاة الجماعية المنتفضة بوجه الطغاة والمستوطنين، هي في بيت فيصل الحسيني والمطران كبوتشي ومحمد أبو خضير، ما أقرب المسافة بين بيروت والقدس.