أعاد مشهد المروحيات وهي تُخلي مقر السفارة الأميركية في كابول للأذهان مشاهد المروحيات وهي تقوم بإخلاء المتواجدين من على سطح السفارة الأميركية في سايغون، قبل أربعة عقودٍ ونيّف. حينذاك، جرّت الولايات المتحدة أذيال خيبتها وخرجت مهزومة، بعد عشرين عاماً من شنّها حرباً ضروساً على الفيتناميين، كانت ذات تكلفة عالية على الطرفين، لتتحوّل العلاقة الأميركية - الفيتنامية مع مرور الوقت وتشابك المصالح إلى تعاونٍ إستراتيجي حالياً، في المجال الاقتصادي تحديداً.
بعد عشرين عاماً على غزوها لأفغانستان تلملم أميركا بقاياها وتخرج في مشهدٍ ذليل، بعد أن عاثت في ذلك البلد فساداً وخراباً. لم يصمد حلفاؤها الأفغانيون للأشهر المتوقعة من قبل أجهزة المخابرات والاستخبارات الأميركية إلا لسويعاتٍ قليلة، ولم يدافع الجيش الذي كلّف إعداده حوالى المئة مليار دولار عن النظام بطلقةٍ واحدة. انهار كل شيء بسرعة فائقة، وهرب العديد من مسؤولي النظام المدعوم أميركياً، وعلى رأسهم رئيس الدولة، إلى خارج البلاد. واستلمت حركة طالبان، التي كانت مستهدفةً أميركياً طوال العقدين السابقين، مقاليد السلطة بشكلٍ تلقائي وانسيابي. وجاءت النهاية، وفقاً لزعيم الأقلية الجمهورية بمجلس الشيوخ في واشنطن، بخروجٍ أميركيٍ "مخجلٍ" من أفغانستان.
مع أن مشهد المكوك المتحرك للمروحيات بين مقر السفارة والمطار في كابول، وجموع الفلول المتجمعة في المطار على الأمل بـ "التشعلق" بطائرةٍ مغادرةٍ، يُنبئ بهزيمةٍ مدويةٍ لسياسة واشنطن في أفغانستان، إلا أن استكناه الوضع المستقبلي لأميركا كقوةٍ عظمى متفردةٍ حالياً على قمة هرم النظام الدولي الأحادي القطبية يتطلّب تقييماً موضوعياً يتخطى درامية المشهد السلبي الآني. فهل سيؤثر الانسحاب الفوضوي من أفغانستان على مكانة أميركا المستقبلية؟ هل ستُزعزع مشاهد الفوضى العارمة في مطار كابول من ثقة حلفاء أميركا بها، وستؤدي بهم إلى استبدالها بغيرها، أو زيادة الاعتماد على أنفسهم والتخلي عن إسنادها؟ وهل سيؤدي هذا الانسحاب إلى حلول قوى أخرى مكان أميركا، ليس في أفغانستان فحسب، وإنما استغلاله مدخلاً لتموضع قوى صاعدة بمناطق مختلفة في العالم؟ وهل سيؤدي هذا الانسحاب إلى تسريع التغيّر المرتقب في النظام الدولي، من نظام أحادي القطبية إلى متعدد القطبية الدولية؟
مع أن المشاهد المتوالية من كابول قد تُعطي الانطباع بذلك، خصوصاً لمن يتمنى تضعضع المكانة العالمية لأميركا وتغيّر وضعية النظام الدولي. ولكن من الجدير التريث قبل التوصل إلى استنتاجات، وإن كانت مرغوبة، فإنها قد تأتي متسرعة، وتكون بالتالي خاطئة.
بعيداً عن الرغبات والأمنيات، فإن خروج أميركا من أفغانستان، حتى وإن كان فوضوياً وجاء بصورة متعثرة تنمّ عن سوء تقدير ورداءة في الإخراج، فإنه لن يؤثر على وضعية أميركا العالمية على المدى القريب والمتوسط، بينما قد يكون ذا تأثير على مكانتها، وعلى طبيعة النظام الدولي، على المدى المستقبلي الأبعد. معنى ذلك أن هذا الانسحاب لن يكون سبباً مباشراً يؤدي إلى تغيّر المعادلة الحالية لموازين قوة القوى الدولية، مع أنه من الممكن أن يُسهم كعامل من عوامل متعددة يؤدي تراكم آثارها مع مرور الوقت إلى إحداث هذا التغيير.
يجدر الانتباه إلى أن ما يُعتبر هزيمة أميركية في أفغانستان، كما كان الحال في فيتنام، لا يخرج عن كونه هزيمة موضعية لأميركا في السياسة التي اتبّعتها تجاه بلدٍ مُعيّن. قد يكون لمثل تلك السياسة تبعات سلبية على مكانتها الإجمالية عالمياً، ولكن ليس للدرجة التي يمكن معها توُقع انهيار تلك المكانة تلقائياً. ومن الجدير بالانتباه في هذا السياق أن الانسحاب من أفغانستان كان موضع نقاش وجدل داخل الأوساط السياسية والعسكرية والأمنية الأميركية منذ سنوات عدّة، وأن القرار بتنفيذه اتُخذ من قبل الرئيس السابق ترامب، وتبعه الرئيس بايدن ليس فقط بالتأكيد على القرار، وإنما بالإصرار على تنفيذه. معنى ذلك أن القرار لم يأت تحت وطأة الهزيمة العسكرية، وإنما جاء نتيجة أن استمرار التواجد الأميركي في أفغانستان كان يتدحرج انسيابياً مع مُضي الوقت جرّاء غياب، وليس وجود، إستراتيجية واضحة لمغزى ذلك التواجد، ما جعل استمرار بقاء الوضع على حاله أسهل سياسياً على واشنطن من اتخاذ وتنفيذ القرار المعاكس، الذي يحمل في ثناياه تكلفة سياسية داخلية على مُتّخذ القرار أن يكون مستعداً لدفعها.
بعد وصول بايدن إلى سُدّة الرئاسة بشهرٍ ونصف الشهر، تمّ الإعلان عن "وثيقة مُعدّلة" لإستراتيجية الأمن القومي الأميركي. في التعديل جرى الإعلان عن ضرورة وضع حدّ وإنهاء "الحروب المزمنة" التي تخوضها أميركا، والتي لم تعُد ذات فائدة تُذكر لها. المقصود هنا هما الحربان في أفغانستان والعراق، واللذان مضى على اندلاعهما عقدان من الزمن. كانت أميركا قامت بغزو البلدين في فترة اضطراب النظام الدولي، بعد انهيار توازن القوة بغياب القطب السوفياتي والكتلة الشرقية عن مسرح السياسة الدولية. خلال تلك الفترة أضحت أميركا القوة العظمى المتبقية على الصعيد العالمي، ما أدى إلى تعاظم التوقعات منها، ما أدى إلى انفراط عِقد قوتها التي خرجت عن عقالها جرّاء غياب الكابح المقابل لها. وعلى مدى العقدين الماضيين عانت واشنطن من سلبيات تمدد قوتها في الخارج، والتي استهلكت قسطاً وافراً من مواردها، فأنهكها ذلك وأضعفها أمام منافسَيها، روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي الصامدة، والصين الجديدة الصاعدة. وانتبهت الأوساط السياسية في واشنطن، من داخل أوساط المعسكرين الجمهوري والديمقراطي، إلى ضرورة استعادة التقاط الأنفاس لتحقيق النجاح في المنافسة الجديدة، والتي أصبحت تتطلب إخراج البلاد من مستنقع حربيها التقليديتين في أفغانستان والعراق، والتركيز على ترميم الوضع الأميركي، داخلياً وخارجياً، لضمان النجاح في المواجهة الجديدة.
المواجهة الجديدة لم تعُد حرباً عسكريةً تقليدية، فزمن مثل هذه الحرب قد خبا، خصوصاً بين دولٍ كبرى تسعى لتأكيد أو تحقيق مكانتها العالمية. الآن، ومنذ الآن فصاعداً، أصبحت المواجهة الجديدة بين هذه الدول تأخذ مناحي جديدة، وتتركز في مجالات محددة، أهمها المجال الاقتصادي والهيمنة على التجارة الدولية، والبراعة في مجال التقنيات والذكاء الاصطناعي، وحماية مجال الأمن السيبراني، ومجال غزو الفضاء. ومن يحقق تقدماً على الآخرين في هذه المجالات سيقبع على قمة هرم النظام الدولي في مستقبل الأيام. وواشنطن تعي ذلك جيداً، ولذلك هي منهمكة حالياً بإقرار مشروعٍ هو الأضخم منذ عقودٍ عديدة لتحديث بنيتها التحتية، كما وتحاول لملمة أوضاعها الخارجية، كإنهاء حروبها التقليدية غير المفيدة لها، وتعزيز بنيان تحالفاتها وتوطيد العلاقات مع حلفائها، وتقوية أذرع قواتها العسكرية لتشكّل رادعاً أمام منافسيها العالميين والإقليميين، وتمديد روابطها الاقتصادية عبر العالم لبسط هيمنتها الاقتصادية ومنع منافسيها، وخصوصاً الصين، من مدّ نفوذها الاقتصادي العابر للقارات.
كل ما سبق ذكره لا يعني أن أميركا لم تعانِ من انتكاسةٍ بسبب انسحابها الفوضوي "المخجل" من أفغانستان. فهذا الانسحاب سيبقى يُعتبر هزيمةً معنويةً ستُشكّل وصمةً سلبيةً في تاريخها الذي ستتذكره الأجيال القادمة، خصوصاً داخل الولايات المتحدة، حيث سيوظف الجمهوريون فوضوية هذا الانسحاب في معايرتهم المستمرة للديمقراطيين. وسنشهد بواكير هذه الهجمات خلال الحملة للانتخابات النصفية للكونغرس، والتي ستحل بعد أكثر من عامٍ بقليل. ولكن يجدر الانتباه إلى حقيقة أن قدرة الدول الكبرى تفوق بأضعافٍ قدرة الدول الأضعف منها على تجاوز ما يلحق بها من وصمات، وتخطي بسرعةٍ ما تُخلّفه من آثار، خصوصاً أن السياسة بشكلٍ عام، والسياسة والعلاقات الدولية تحديداً، هي في الأساس انعكاس للمصالح أكثر منها للمبادئ القيمية والاعتبارات الأخلاقية، والتي وإن حضرت فإن تأثيراتها تبقى أكثر شكليةً من كونها حقيقية. ولهذا السبب فإن الدول الأخرى، وتبعاً لمصالحها، مستعدةٌ للتغاضي عن وصمات الدول الكبرى بسرعةٍ أكبر ممّا لو كانت هذه السلبيات مرتبطة بمثيلاتها من الدول.
وللعودة مجدداً إلى موضوع أفغانستان، فإن الانسحاب الأميركي منها لن يكون كُليّاً من دون آثار، ولكن آثاره ستكون على المدى الأبعد زمنياً، وستتعلق بالصراع الدائر حالياً بين المتنافسات من الدول على الصعيدين الدولي والإقليمي. فهذا الانسحاب سيترك فراغاً، وستحاول دولٌ كالصين وروسيا وإيران، إما منفردة أو بشكلٍ جماعي، استغلال الظرف الحاصل لمحاولة ملء الفراغ والنيْل قَضْماً من مكانة أميركا العالمية. فموقع أفغانستان المتوسط في قلب آسيا، وما تملكه من ثرواتٍ وفيرةٍ من الموارد الطبيعية، يجعل من الهيمنة على تلك البلاد ذُخراً إستراتيجياً لمن يتمكن من ذلك. ولكن يجدر عدم إغفال أن ذلك يعتمد بشكلٍ جوهري على توجّه الطبعة الجديدة من حكّام أفغانستان الجدد، أي على النسخة المُنقحة من حركة طالبان. وعندما يُؤخذ هذا العامل بعين الاعتبار، يعنّ على البال حقيقة أن فيتكونغ الماضي أصبحوا حلفاءً موثوقين للأميركيين الآن.