في الوقت الذي أعادت فيه الحرائق الأخيرة إلى الحياة مدرّجات جبال القدس، التي صنعتها أيدي الفلاح الفلسطيني وأخفتها أحراش "الكيرن كييمت" الدخيلة، كشفت الأزمة الدبلوماسية التي وقعت مع بولندا حجم النفاق وازدواجية المعايير الإسرائيلية والدولية في التعامل مع المحرقة اليهودية والنكبة الفلسطينية، وشكّلت مادة صالحة للمقارنة بين ضحايا الكارثتين.
وفي السياق، تناول بعض الكتاب الإسرائيليين، بينهم المؤرخ المختص بالمحرقة اليهودية، دانييل بالطمان، رد الفعل الإسرائيلي على الإجراء البولندي، من باب المقارنة مع "قانون أملاك الغائبين" الذي حرم الفلسطينيين الذين هجروا من ديارهم عام 1948 من أملاكهم بشكل تعسفي، وكذلك مع "قانون القومية"، الذي حَرم الفلسطينيين داخل إسرائيل وخارجها من حقهم في تقرير المصير على أي بقعة من أرض فلسطين التاريخية وحصر هذا الحق باليهود.
وتحت عنوان "عندما يتعلق الأمر ببولندا تبرز مشكلة مع قانون أملاك الغائبين"، انتقدت الكاتبة كيرن هابار رد الفعل الإسرائيلي على القانون البولندي بالقول من كان بيته من زجاج لا يرجم الآخرين بالحجارة، وعلى إسرائيل رؤية "حدبتها" أولًا، أو باسمها الرسمي "قانون أملاك الغائبين من عام 1950"، الذي يتيح منذ 71 عاما تجاهل كل ما يتعلق بحقوق الملكية الخاصة بالفلسطينيين وسلطة القانون والعدل معا.
في حين تخيل المؤرخ دانييل بالطمان في مشهد سوريالي بولندا تعيد سفيرها لدى إسرائيل، احتجاجا على "قانون القومية" الذي شرعته الكنيست عام 2018، بينما يقتبس وزير خارجيتها، تشفطوبيتش، في خطاب بالبرلمان البولندي نص القانون الذي يقول إنّ "دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي التي يمارس بها حقه الطبيعي الثقافي، الديني والتاريخي في حق تقرير المصير، وإن حق تقرير المصير في دولة إسرائيل محصور بالشعب اليهودي".
تصوروا ماذا كان سيجري لو أنّ الدستور البولندي عرّف الدولة البولندية كدولة العرق الكاثوليكي، ومنحهم حصرا حق تقرير المصير في الدولة القومية للشعب البولندي، وحرم من هذا الحق آلاف اليهود الذين يعيشون هناك، وكذلك المسلمين والأرثوذكس والبروتستانت المسيحيين، مثلما يقول بالطمان، لكان العالم قام ولم يقعد، ولكن عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين يصبح الموضوع محض خيال. وخطاب وزير الخارجية البولندي المذكور لم يسمع أبدًا، ويمكن إبداء الأسف فقط لأن برلمانات أوروبا لم تبحث "قانون القومية" الإسرائيلي، ولو فعلت لكانت إسرائيل قد فهمت أنّ هناك حدودًا لممارساتها العنصرية التي تسبغ عليها الشرعية باسم قدسية المحرقة اليهودية، بلسان هابار.
وفي الوقت الذي تحاول فيه دول مثل بولندا وألمانيا وغيرها إنهاء فصل مؤلم في تاريخها لم تكن هي بصيغتها القائمة اليوم مسؤولة عنه، بل إن بعضها مثل بولندا كان تحت الاحتلال، وهي تكفّر عن ذنوب لم ترتكبها، تسعى إسرائيل جاهدة إلى عدم إنزال المحرقة عن جدول أعمال العالم ومواصلة استغلالها واستعمالها درعًا أمام أي نقد عالمي ضدها وضد احتلالها واستيطانها وجرائمها تجاه الشعب الفلسطيني.
ومن المستغرب أن نسمع صرخات وزير خارجيتها، يائير لبيد، الذي يصفه بالطمان بـ"صاحب نظرية ’الزعبيز’"، على قانون يجيز إغلاق قضايا بفعل التقادم بمرور 30 سنة من بدء المداولات القضائية على استعادة أملاك جرى طرد أصحابها منها في سنوات الاحتلال الألماني خلال الحرب، وجرى تأميمها لاحقا على يد النظام الشيوعي، في وقت تقوم دولته اليوم بإخلاء عائلات فلسطينية من الشيخ جراح وسلوان وإحلال عائلات يهودية مكانها، ولا تمنح للفلسطينينن الذين أخلتهم من بيوتهم في نكبة 1948 أي حق للتداول بشأنها أمام محاكمها، وحتى الجغرافيا الفلسطينية التي جرى إخفاء معالمها في جبال القدس لا تستعيد وضعيتها إلا بحريق كبير.
ويبدو أن لا ضرورة بأن يقوم الحارس الفلسطيني أبو اللسان المقطوعة، الذي أشعل النار في أحراش "الكيرن كييمت" التي تغطي معالم قريته المهجرة، كما في رواية الكاتب الإسرائيلي أ.ب يهوشوع، بل تكفي حرارة الصيف الفلسطيني لأن يضيق المكان ذرعا بالأشجار الدخيلة عليه.