أحد أهم الدروس المستفادة من الانسحاب الأميركي بعد عشرين عاما من وجود القوات العسكرية الأميركية في أفغانستان، هو أن لكل احتلال نهاية، وهذا ينطبق تماما وجدا على الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين، وهذا لا يخفى على قادة إسرائيل نفسها، سواء أولئك الذين في الحكم، أو أولئك الذين في المعارضة، وبمناسبة الانسحاب الصاخب للأميركيين من أفغانستان، ظهر رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، رئيس المعارضة الحالي بنيامين نتنياهو ليغرد عبر فيسبوك بالقول، إن الولايات المتحدة عرضت عليه تطبيق النموذج الأفغاني على أرض دولة فلسطين، وذلك بالإشارة إلى المفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية التي كانت جارية العام 2013، بالرعاية الأميركية، وتعثرت إلى أن توقفت بالطبع كما هو معروف، وكان من ضمن الاقتراحات الأميركية في ذلك الحين، لمواجهة المطلب الإسرائيلي الخاص بالاحتفاظ بغور الأردن وشمال البحر الميت لأسباب أمنية، هو وجود قوات دولية - أميركية بشكل أساسي - في تلك المنطقة.
ولأن اليوم ليس كالأمس، وما كان معروضا العام 2013، ليس بالضرورة أن يبقى قائما في العام 2021، فإنه لا معنى لتصريح نتنياهو إلا كونه يأتي في سياق محاولته القول: «نحن هنا» وتذكير الجمهور الإسرائيلي، بإنجازاته وسياساته التي وقفت حائلاً دون التوصل للحل السياسي، كما فعل صديقه ورفيقه في المصير، المطرود من البيت الأبيض دونالد ترامب، الذي وصف الانسحاب الأميركي من أفغانستان بالعار، المهم هو أن الإسرائيليين يدركون أنه قد آن أوان وضع الحد النهائي لأطول وآخر وأسوأ احتلال أجنبي لأرض ووطن الغير، ونقصد بالطبع احتلالهم لأرض دولة فلسطين، حيث يتصاعد الضغط الدولي، ليس السياسي وحسب، ولكن الشعبي، خاصة في الولايات المتحدة نفسها، من أجل أولاً تقليم أظافر الاحتلال، بإعلان المواقف الرافضة تباعا، لطرد السكان الفلسطينيين من سلوان، وربط المساعدات الأميركية لإسرائيل باحترامها للقانون الدولي، ثم مناصرة الحركة المناهضة للاستيطان، وكما هو معروف فإن إدارة جو بايدن، أمهلت إسرائيل حتى أيلول المقبل، أي إلى ما بعد تمرير الميزانية، للبدء بالبحث في الملف الفلسطيني/الإسرائيلي.
وكما فعلت في مواجهة مباحثات جنيف الخاصة بالملف النووي الإيراني، أي بتسخين جبهات الاحتكاك مع إيران، إن كان في الخليج وبحر العرب، أو في سورية أو لبنان، حتى تخرج على أقل تقدير، إن لم يكن بإفشال المفاوضات ومنعها من العودة لاتفاق 2015، فبتحسين شروطه من ناحيتها، بإدخال بنود أخرى تهم إسرائيل أكثر من غيرها، مثل الصواريخ البالستية، والوجود الإيراني في سورية وحزب الله وحتى حماس، فإن إسرائيل تستبق الإطلاق المحتمل أو المتوقع للمباحثات الخاصة بملف احتلالها لأرض دولة فلسطين، بإطلاق حرب المستوطنين على طول وعرض الأرض الفلسطينية المحتلة، من جنين للقدس والخليل مروراً بنابلس وطوباس وبيت لحم، لدرجة أنه لا يكاد يمر يوم دون هجوم للمستوطنين، أو محاولة لإقامة بؤرة استيطانية، وكلما تحرك الشعب الفلسطيني ومعه الرأي العام الدولي ضد طرد السكان من حي من أحياء القدس، ظهر في اليوم التالي ملف خاص بمحاولة طرد فلسطينيين من حي آخر، وبالطبع القوات الإسرائيلية، سواء الشرطة أو الجيش حاضرون دائما، في خلفية المشهد، أولا من خلال تسهيل مهمة المستوطنين بالاقتحام، أو السماح لهم بحمل السلاح، وثانيا من خلال تكبيل وتقييد حركة الفلسطينيين بالمقابل لمنعهم من القيام بردة الفعل، أو التصدي للمستوطنين، وحين يفشل المستوطنون بسبب من المقاومة الشعبية السلمية الفلسطينية، يدخل بشكل مباشر الجيش، ليقتل ويقمع كما فعل في جنين قبل أيام.
التفسير المرجح لهذه الحرب المعلنة هذه الأيام، هو أن هناك إدراكا لدى إسرائيل بأن هناك ضغوطا عليها من أجل فتح ملف التفاوض المغلق منذ سبع سنوات، وإسرائيل تدرك رغم كل ما حققته من اختراق في ملف التطبيع العربي، ومن إشعال ملفات إقليمية أخرى لشغل الدول العظمى وكذلك الإقليم بها، ومنها الملف الإيراني، الذي تسعى دول الخمس+1 لتهدئته وهي أهم دول العالم، تسعى إسرائيل للإبقاء عليه متوترا، والتراجع عن الاتفاق السلمي تجاهه، تدرك إسرائيل أنها رغم كل ما حققته، إلا أن إعادة البحث في ملف احتلالها لأرض دولة فلسطين، سينتهي بطردها من تلك الأرض، وإنهاء احتلالها، ذلك أن الشعب الفلسطيني لم يرفع الراية البيضاء، رغم كل ما تعرض له، وما زال يصر على إنهاء حقيقي للاحتلال، وعدم التعايش معه، بما يمكنه من إقامة دولته المستقلة.
أي أن إسرائيل تعرف تماما، أن العودة للمفاوضات حول ملف الاحتلال، ستنتهي بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، على أرض الضفة الغربية والقدس، لذا هي تحاول إن فشلت في منع إطلاق المفاوضات، أن تكون الدولة الفلسطينية، إن لم تكن حكما ذاتيا للسكان فقط كما تشتهي، ففي أضعف حالة، وهذه تعني باختصار أن تكون دون القدس أولا، وثانيا دون غور الأردن، وثالثا دون تواصل جغرافي، حيث هنا تكون الوظيفة الإستراتيجية للمستوطنات التي تقطع أطراف بل وجسد الدولة الفلسطينية، ولهذا فهي تدفع بالمستوطنين حتى يكونوا في داخل المشهد، وليس مستبعدا أن تدفع بهم للجلوس على طاولة التفاوض، حتى يجري البحث أساسا ليس بين دولتي إسرائيل وفلسطين لترسيم الحدود بينهما على أساس خط الخامس من حزيران العام 1967، بل على أساس رسم خط حدودي بين التجمع الاستيطاني اليهودي والتجمعات السكانية الفلسطينية !
أي محاولة حشر البحث التفاوضي في هذا الإطار الغريب، على أساس أنه واقعي، وحتى يظهر الملف على أنه ليس احتلالا عسكريا للجيش الإسرائيلي لأرض ووطن الغير، بل على أساس أنه صراع بين مجموعتين عرقيتين تقيمان في تلك المنطقة المتنازع عليها بينهما، لذا فإن حرب المستوطنين الحالية، هي حرب خطرة للغاية، وقد تكون، بل هي على الأغلب الحرب الأخيرة لرسم معالم الحل الذي لابد أن يكون في نهاية الأمر، ولهذا فإن المقاومة الشعبية الفلسطينية التي تجري حاليا، والتي تعيد تكرار انتفاضة العام 1987، هي الطريق الأمثل لإفشال المخطط الإسرائيلي، لإفراغ خطوة إنهاء الاحتلال من مضمونها، ولهذا فإن التقديرات الأمنية الإسرائيلية تشير إلى وجود غليان متصاعد في الأرض الفلسطينية المحتلة في عموم القدس والضفة الغربية وحتى غزة، ولهذا فإنه من أجل كسب الحرب، لابد أن يترافق الصمود السياسي بالمقاومة الشعبية، وتصدي المواطنين المتواصل لكل مظاهر حرب المستوطنين.