ليس لدى حسن نصر الله الأمين العام لـ "حزب الله" في لبنان من جديد يطرحه. ليس كافياً بيع اللبنانيين الأوهام كي يعيد "حزب الله" إعادة تعويم نفسه. حتّى لو استطاع نجيب ميقاتي تشكيل حكومة جديدة بعد دعوة حسن نصر الله إلى الاستعجال في تشكيل مثل هذه الحكومة، فإن ذلك يعود إلى حاجة لدى الحزب إلى تهدئة بيئته الحاضنة. بدأت هذه البيئة تدرك أنّ ليس لدى الحزب من مشروع حضاري أو سياسي أو اقتصادي سوى مشروع تحويل لبنان ضاحية فقيرة وبائسة من ضواحي طهران.
ما حصل أنّ لبنان انهار. انهار على كلّ أبنائه. لم يخرج أيّ لبناني رابحاً من الانهيار الذي تسبّب به "حزب الله"، ومن خلفه إيران بهدف واضح كلّ الوضوح هو جعل البلد ورقة إيرانيّة، وذلك بعد إفقاره.
كان سعد الحريري على حقّ عندما قال قبل أيام إن "تعطيل ولادة الحكومة اللبنانية لأكثر من سنة، كان بالتأكيد صناعة إيرانية بامتياز". مثل هذا التصرّف الإيراني ليس غريباً ولا مستغرباً. سبق لـ "حزب الله" أن أغلق مجلس النواب اللبناني سنتين ونصف سنة من أجل انتخاب مرشحه ميشال عون رئيساً للجمهورية… تتويجاً لوضع يده على الرئاسة والتأكيد للمسيحيين، على وجه الخصوص، أنّه الطرف الذي يقرّر من هو الماروني الذي يقيم في قصر بعبدا. هذا ما لم يدركه ميشال عون وصهره جبران باسيل، ذلك أن الأوّل كان مستعداً للوصول إلى موقع رئيس الجمهورية بأيّ ثمن كان… حتّى لو كان الثمن زوال لبنان الذي يواجه خطراً وجودياً على حد تعبير وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان.
تكشف الأزمة المصيرية التي يمرّ فيها لبنان أن النظام الذي قام منذ العام 1943 عند حصول الاستقلال، والذي أدخلت عليه تعديلات في العام 1989 بعد إقرار اتفاق الطائف، كان نظاماً معقولاً. جعل هذا النظام من لبنان بلداً مزدهراً. ما يحصل الآن هو ضرب للنظام ولعلّة وجود لبنان. ما يجرى هو تدمير كامل لكل المؤسسات اللبنانية. إذا تشكلت حكومة لبنانية، فإن حسن نصر الله يكون من أفرج عن الحكومة. هذا يعني أن إيران باتت تقرّر من هو رئيس الجمهورية المسيحي (الماروني) وهي التي تسمح للسنّي، أكان نجيب ميقاتي أو غيره، بتشكيل حكومة. أمّا بالنسبة إلى مجلس النواب الذي على رأسه منذ ثلاثة عقود الرئيس نبيه برّي، فلا مشكلة لدى "حزب الله" في ظلّ وجود "الثنائي الشيعي" الذي يضمّه مع حركة "أمل"، وهو ثنائي قضى على أي تعدّدية داخل الطائفة التي تضمّ أصلاً أفضل الكفاءات اللبنانية.
الجميع خاسر من وضع "حزب الله" يده على لبنان. الخاسر الأوّل هو لبنان نفسه. الخاسر الأكبر هم المسيحيون الذين لم يترك لهم "العهد القويّ" سوى باب الهجرة من لبنان. هناك عهد لا يعرف معنى أن يتحكّم سلاح ميليشيوي ومذهبي بلبنان. هناك عهد لا يريد أن يعرف من وراء تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020. لو كان العهد جدّياً في معرفة من الذي أحدث هذا التفجير الذي دمّر جزءاً من بيروت وزاد عشرات الآلاف من المسيحيين الفقراء فقراً، لكان أوّل ما فعله رئيس الجمهورية طلب تحقيق دولي في الكارثة. أقلّه من أجل معرفة من وراء الإتيان بنترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت ومَن خزّنها في العنبر الرقم 12 ومَن كان يُخرج من العنبر الكميّة المطلوبة من النترات بين حين وآخر. أكثر من ذلك، كان التحقيق الدولي سيكشف إلى أين كانت تذهب كميات النترات التي خُزّنت في المرفأ وأُخرجت منه وما وجهة استخدامها… في سورية طبعاً!
إنّ الخسارة التي يتعرّض لها المسيحيون في لبنان خسارة للسنّة والشيعة والدروز أيضاً. لا مفرّ من الاعتراف بأن "حزب الله" استطاع تغيير طبيعة لبنان وتركيبته والنظام القائم فيه. ما بقي من لبنان هو أشلاء اقتصاد وأشلاء نظام. ما بقي أشلاء بلد لا أكثر.
نعم، الجميع خاسر من وضع "حزب الله" يده على لبنان. بدأ الشيعة أنفسهم يشعرون بذلك ويطرحون أسئلة من نوع هل مهمّة لبنان مواجهة إسرائيل أو المشروع الأميركي في المنطقة؟
ليس هناك شكّ في أن إسرائيل تعرف ماذا تريد. مشكلتها الحالية ومستقبلاً مع الشعب الفلسطيني الذي بدأت تدرك أنّ ليس في استطاعتها تجاهله ولا تجاهل طموحاته المشروعة. أين مصلحة لبنان في لعب أدوار تفوق حجمه وهو بلد أوصله "التيّار العوني" الذي يتولى أمر وزارة الطاقة منذ ما يزيد على عقد من الزمن إلى الظلمة الكاملة. كيف يمكن لبلد من دون كهرباء تحرير فلسطين؟ هذا ما يسأله الشيعة اللبنانيون، بأكثريتهم الساحقة في الوقت الحاضر.
ليس معروفاً هل يكفي إفراج حسن نصر الله عن حكومة، قد تتشكّل أو قد لا تتشكّل، كي تشعر بيئته الحاضنة بالارتياح. في النهاية ليس لدى "حزب الله" ما يقدّمه إلى اللبنانيين، جميع اللبنانيين غير البؤس والفقر اللذين يشكلان بالنسبة إليه ضمانة تجعلهم خاضعين لمشيئته.
لعلّ أخطر ما يجري حالياً في المنطقة كلّها أن مصير لبنان لم يعد مهمّاً لا عند الأميركيين ولا عند العرب. إذا كان الانسحاب الأميركي من أفغانستان كشف شيئاً، فهو كشف أنّ هناك سياسة أميركية واضحة تركّز على الداخل الأميركي. أما بالنسبة إلى لبنان، فما يربط بين إدارتي دونالد ترامب وجو بايدن هو عدم الاكتراث به وبمصيره. هناك لدى الإدارتين اهتمام واحد. هذا الاهتمام هو بالجيش اللبناني ومنع انهياره. مثلها مثل إدارة ترامب، لا تريد إدارة بايدن فوضى شاملة في لبنان في حال حصول الانهيار الكامل. تريد بقاء من يستطيع ضبط السلم الأهلي بحدّه الأدنى لا أكثر…
يدفع اللبنانيون جميعاً ثمن وضع إيران يدها على البلد. الجديد في الأمر أن القسم الأكبر من الشيعة بدؤوا يدركون ذلك. بدؤوا يدركون أن لبنان الماضي القريب كان أفضل. كان أفضل لهم وأفضل لجميع اللبنانيين… إلى أن جاء "العهد القويّ"، أي "عهد حزب الله" بكل جبروته!