أسوأ ما يمكن أن يحدث، وقد حدث بالفعل، أن تكون الهزيمة الأميركية في أفغانستان سبباً للابتهاج بفوز الطالبان. فما حدث يتمثل في خروج مُحتل، وحلول آخر في مكانه. أما الابتهاج بفوز الطالبان فلن يجد مسوّغاته، بالمعنى الأيديولوجي، إلا إذا سلّمنا باستنتاج الإسلاميين من ناحية، أو اعتبرنا أن الإسلام السياسي من تجليات حركة التحرر القومي في المستعمرات من ناحية ثانية. وغالباً ما تختلط عناصر من هذا وذاك في تحليلات سياسية كثيرة.
كلاهما، بقدر ما أرى، في ضلال مبين، ومدين بوجوده للكولونيالية الغربية، وإن اختلفت الأسباب. فالواقع أن الإسلام السياسي لم يكن ممكناً دون ديمومة البنى والقيم الاجتماعية التقليدية والمحافظة، التي كانت، دائماً، شريكاً تقليدياً للقوّة الكولونيالية الغازية. كما أن تحليل حركة التحرر القومي في المستعمرات، لم ينج في جوانب كثيرة من عنصرية المركزية الأوروبية، التي استكثرت على غير الأوروبيين علاقة بالسياسة أعلى، أو أبعد، من العصبية القبلية والدينية.
ومن المفارقات أن أنظمة ما بعد الكولونيالية قد تبنّت، بهذا القدر أو ذاك، النظرة العنصرية نفسها، وهذا يصدق حتى على أكثر القوميين تشدداً، وعداءً في مرحلة ما للكولونيالية الغربية. فصدّام حسين، لم يجد حلاً لبقائه في الحكم، بعد سلسلة هزائم فادحة، دون "الحملة الإيمانية". ونظام آل الأسد أعاد ابتكار استراتيجية وتكتيكات تحالف الأقليات في الحرب الأهلية. وفي التاريخ السياسي لقوّة أجنبية غازية، على سبيل المثال لا الحصر، أنشأت بريطانيا في فلسطين الأحزاب الزراعية (الريفية) للقضاء على الحركة الوطنية، وإسرائيل أنشأت "روابط القرى" لتحقيق الغرض نفسه.
ولا نحتاج لاختراع البارود إذا قلنا إن الأميركيين مكّنوا قوى تقليدية رجعية ومحافظة من حكم العراق بعد احتلاله، واستعانوا بالبنى الاجتماعية التقليدية، والميليشيات الطائفية والقبلية، لضمان ديمومة واستقرار الاحتلال، وبقاء "الحلفاء" في سدة الحكم هناك. وهذا ما حدث في أفغانستان، أيضاً. ولعل فيه ما يفسّر لماذا انهار النظام في كابول.
ولا أريد الكلام، هنا، عن عملاء وتابعين. وهذا كله صحيح، فلم ينظر أغلب العسكريين والساسة الأميركيين، بعد الاحتلال، إلى حلفائهم الأفغان كشركاء على الأرجح، بل انتظروا منهم طاعة ومرونة التابع والعميل. ولكن ثمة حقيقة تفوق هذا كله، أعني أن بناء نظام جديد، وضمان ديمومته، سواء تم على يد قوّة خارجية، أو محلية، لن يكون ممكناً، في المدى المتوسط والبعيد، دون تدمير البنى الاجتماعية التقليدية (إعادة هندسة البنى الاجتماعية، إذا شئت تعبيراً ألطف)، وتمكين طبقة وسطى جديدة وفاعلة، وتعزيز وتكريس دور المدن والحياة والقيم المدينية.
فلا معنى لكل ما يمكن الكلام عنه لاحقاً باسم الديمقراطية، وتمكين النساء، وحقوق الإنسان، (وما شئت مما يدخل في حكمها من تعبيرات) دون مشروع طويل الأمد لتدمير البنى التقليدية، أي إعادة النظر في الملكيات الزراعية الكبيرة، وفي آليات توزيع الثروة، وملكية وسائل الإنتاج، وفي تفكيك الشبكات القبلية والمناطقية، وعلاقات القوّة بين الجماعات الإثنية، وإعادة بنائها على أسس جديدة. وهذا كله يمكن فرضه بقوّة وسلطة وهيبة الدولة، حتى وإن اصطدم بحساسيات سائدة.
وقد فعل المحتلون الأميركان و"شركاؤهم" الأفغان، في سدة الحكم، وكلهم من أسياد الحرب السابقين، والزعامات القبلية، و"روابط القرى" على الطريقة الأفغانية، عكس هذا كله انطلاقاً من النظرة العنصرية للمركزية الأوروبية، واعتناق التابعين للعنصرية نفسها ضد بني جلدتهم، لأنها الضامن الوحيد لديمومة الفساد واللصوصية والاستغلال.
ولعل في هذا ما يفسّر جانباً من الأسباب العضوية لبقاء الطالبان: لم يفكك "أعداؤهم" البنية الاجتماعية التي أنجبتهم، بل عملوا على تكريسها وتقوية شوكتها.
أما الجانب الآخر، الذي لا يحظى باهتمام أحد (في زمن التحليل على طريقة القص واللصق) فيتمثل في حقيقة أن الاستقرار مفقود في أفغانستان منذ خمسة عقود مضت، وخلال هذه الفترة دُمّرت المدن، وتلاشت الطبقة الوسطى تقريباً، وأصبحت التمركزات القبلية والاثنية والمناطقية هي المصدر للهوية، والثقافة، والسلطة. وفي بيئة كهذه يزدهر الطالبان، وكل ما يدخل في حكمهم.
واللافت مقارنة بالانهيار السريع لنظام كابول، الذي أنفق الأميركيون عقدين في بنائه، أن نظام الشيوعيين صمد ثلاث سنوات بعد انسحاب السوفيات. ومصدر صموده، رغم نهايته المأساوية على يد "المجاهدين"، مصادرة الملكيات الكبيرة في الريف، ومشاريع التحديث الاجتماعي، التي أطلقها في ظل ظروف لم تكن مواتية. صمد النظام، بقدر ما أرى، لأنه تمكّن من مد جذور، وتحقيق مصالح، وبناء شبكات وعلاقات اجتماعية جديدة، ومن سوء حظه أن آخر معارك الحرب الباردة كانت تجري على أرضه، ولم يكن في وسعه النجاة من مصير محتوم.
على أي حال، من فوائد الحدث الأفغاني إمكانية استخدامه للتدليل على مغالاة وجنوح الكلام عن مسعى ورغبة "الغرب" في تدمير القيم الروحية والبنى والعادات الاجتماعية في عالم العرب والمسلمين. فالصحيح أن "الغرب"، على مدار قرنين من الزمان، كان الضامن الأكبر لديمومة وصعود أكثر المنادين بها محافظة ورجعية وتقليدية، وغالباً ما كان هؤلاء من حلفائه الطبيعيين.
وإذا شئت الدليل على طريقة ما قل ودل: تأمل في هوية "المجاهدين" الذين خاض بهم الغرب آخر معاركه الكبرى في زمن الحرب الباردة، وتأمل في الهوية الثقافية والسياسية والاجتماعية والقيمية للهوامش الصحراوية في العالم العربي، والتي يُراد تعميمها وتكريسها في حواضر انهارت وتكاثرت عليها السكاكين. ولعل في هذا ما يصلح في معالجة اليوم كملاحظة إضافية.