يوم 2/8/2021 عثر على رفات جندي أردني في منطقة تل الذخيرة في حي الشيخ جراح داخل مدينة القدس المحتلة، الجندي استشهد في معركة الدفاع عن القدس خلال حرب عام 1967، وعثر الى جانب رفاته على رصاص وبندقية وخاتم وخنجر وساعة يد توقفت عقاربها عند الواحدة والثلث، ولو فتشوا ملابسه العسكرية ربما لوجدوا في جيوبه رسائل لم تصل الى عائلته وأولاده، صوته عبر اللاسلكي لم يصل الى الامة العربية والإسلامية، الموت والصمود والاستغاثات ذابت في أجواء الهزيمة.
أرض الشيخ جراح المنتفضة ضد سياسة التهجير والترحيل والاستيلاء على المنازل التي تقوم بها حكومة الاحتلال أخرجت كل ما في اعماقها من ذخيرة، الدماء والجثث والبنادق والاحلام والرصاص، وبعد 54 عاماً من احتلال مدينة القدس تحركت ساعة الجندي الشهيد، تحركت القدس بأهلها وتاريخها واسوارها وصلواتها تلبي نداء الشهداء وأرواحهم الوفية التي لم تغادر المدينة.
معركة تل الذخيرة شمال القدس في حي الشيخ جراح تعتبر من اكبر المعارك في التصدي للمحتلين الإسرائيليين خلال حرب النكسة، لم تتوقف ساعة الجندي الشهيد والتي ما زالت تدق، لا راية بيضاء في القدس، في الساعة الواحدة والثلث تحرك زمن آخر، زمن المقدسيين المنتفضين ضد الطغاة والمستوطنين المتطرفين، هبات وانتفاضات وبطولات ومواجهات في كل حي وشارع وساحة، في المسجد والكنيسة وأركان الصلاة، في باب العامود وسلوان والطور والعيسوية وبطن الهوى وباب الرحمة وفي سجن المسكوبية، أطفال ونساء وشبان وصلوات وحجارة واعلام فلسطينية، ذخيرة الجندي الشهيد كانت كافية، روحه المتحفزة في الخندق، صموده حتى الطلقة الأخيرة.
الجندي الشهيد لم ينتظر احداً يأتي من خلف الحدود، القدس عصية على المحتلين والدخلاء، وحدة الزمان في القدس لا تتحكم بها القوة العسكرية الهمجية ولا عمليات القمع الوحشية، ساعة القدس تعمل خارج التقويم العبري وخارج مخططات التطهير العرقي الإسرائيلية، ساعة تدق بكل الاتجاهات، توقظ الاحياء والاموات، الزمان والمكان، جيلٌ يرث جيلاً، كل مقدسي له زمنه الخاص في القدس، المواعيد والمظاهرات والاعتصامات والاغاني والادعية والابتهالات وصوت الحقيقة.
العثور على رفات الجندي الأردني بعد كل هذا الوقت هي نبوءة، الشهداء يعودون، لم تحتمل جثة الشهيد ما يجري في القدس، لملمت نفسها وخرجت من أبديتها وكسرت الغياب، خرجت تقاتل من جديد مع أهل القدس وحي الشيخ جراح، العودة كانت صرخة من الماضي الى الحاضر الى المستقبل، صرخة من القدس العربية الإسلامية المسيحية عاصمة فلسطين، صرخة الدم تحطم الصمت وتكشف عن جرائم الإبادة التي ارتكبتها سلطات الاحتلال في عام 1967، جرائم التهجير القسري والطرد وهدم المنازل وسلب الأراضي وبناء المستوطنات، جرائم تهويد مدينة القدس والمداهمات والاعتقالات والا بعادات والاعتداءات على الأماكن الدينية، قتل الأطفال والنساء في عمليات الاعدامات الميدانية، جرائم الحواجز والجدران والاسلاك وتجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم والعقوبات الجماعية.
العثور على رفات الجندي الشهيد يفتح ملف المفقودين الفلسطينيين والعرب الذين اختفوا خلال الحرب، لا هم على قوائم الشهداء ولا هم على قوائم الاسرى، التصفيات والاغتيالات والاحتجاز في مقابر عسكرية وسجون سرية، قوائم الصليب الأحمر خاوية، قوائم الأمم المتحدة خاوية، وبعد 54 عاماً يقول لنا الجندي الشهيد: باسم كل الشهداء أقول للعالم أن هذا الاحتلال الهمجي ليس مؤقتاً، هذا الاحتلال الذي دام لسنوات طويلة قد دخل التاريخ على انه أطول احتلال عسكري قائم، خلق الأمر الواقع، الاستيلاء على الأرض، تحويل الفلسطينيين الى هامشيين واقلية، لم يعد مجالا هنا للسلام او المفاوضات القادمة، انه مشروع استعماري متواصل هدفه تهويد فلسطين وتجريدها من هويتها العربية.
عقب قيام إسرائيل باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في حزيران 1967، سارعت الى ضم مدينة القدس وشرعت في تهويدها وصادرت عشرات الالاف من الدونمات من مساحتها ووسعت حدودها الإدارية وبدأت بإقامة المستعمرات اليهودية في المناطق الفلسطينية المحتلة، وعلى الرغم من تهجير ما يزيد عن 250 ألف من السكان الفلسطينيين واجبارهم على مغادرة الضفة وقطاع غزة المحتلين، فإن معظم الشعب الفلسطيني قرر البقاء والصمود في وطنه، لن تتكر نكبة 1948، ولن يتحول الشعب الفلسطيني الى لاجئين مرة ثانية، قال ذلك الجندي الشهيد وهو يحلق بروحه في سماء القدس يتحدى القوى الإسرائيلية القمعية.
لم يتوقع الجنرال الإسرائيلي موشي ديان وزير الدفاع خلال حرب 1967، ان تتبلور الوطنية الفلسطينية برغم كل الإجراءات التعسفية وسياسة العصا والجزرة التي نفذتها حكومة إسرائيل للسيطرة على السكان، فبعد عام واحد هزم جيش الاحتلال في معركة الكرامة، وانطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة، رفعت جماهير الأرض المحتلة شعارها الصمود على ارض الوطن، الموت لا النزوح، تشكلت لجنان التوجيه الوطني والهيئات والنقابات والمجالس البلدية والمقاومة الشعبية في كل مكان حتى في السجون، انتشرت المقاومة الفدائية، انتفاضات تتلوها انتفاضات، اشتعلت الأرض المحتلة في وجه المحتلين، ساعة الشهيد لم تتوقف كسرت حدود السجن والدائرة.
ساعة الجندي الأردني اشارت الى الواحدة والثلث، لم تصدأ، الوقت كان مفتوحاً على كل اتجاهات النبض، كان التراب يتحرك، جثث الشهداء المدفونة تتململ، عذابات آلاف الاسرى تتحول الى قنبلة موقوتة خلف القضبان، التراب لازال ساخنا، القبضات تحمل حجراً وعلماً وبندقية، كلما مر وقت طويل تحرر الوقت الفلسطيني وحلق في فضاء الحرية، بينما حشر الوقت الإسرائيلي في معسكر او خلف جدار او في عقيدة عنصرية وسردية لا أخلاقية.