كنت عشرينياً حين عُرض مسلسل أرابسك عام 1994، أول الكتابة (أول الحب كما قال درويش)، حين وقفت مشدوهاً لأحد مشاهد المسلسل للكاتب أسامة أنور عكاشة، حين أزال المهندس حسن الشهير بحسن أرابسك كل الديكورات من الفيلا، تلك الديكورات التي تمثل تاريخ الحضارات التي مرّت على مصر، التي رآها قد أخذت مساحة كبيرة داخل الفيلا؛ ففوجئ الجميع!
لم تكن حركته تلك نابعة فقط من حيث علاقة الديكورات بفضاء الفيلا، بل كانت لها علاقة بهوية المجتمع. ثمة رمز هنا، فإذا حسن ذلك التجميع كما خشب الأرابسك جمالياً، لكن عملياً ستشكل كل هذه الهويات، تشتيتاً للفكر الاجتماعي إن لم يحسن تقديمها. بمعنى أنه اجتهد بأن يقترب من الهوية الجامعة الأساسية، فيما تكون الحضارات كلها خلفية تذكّر بتشكيل هذه الهوية، حتى لا يشعر الناس باغتراب، كذلك حتى تظل مصر في مكانتها من المنطقة.
كانت هناك فعلاً فرصة ذهبية لهذا المهندس والمفكر، لإعادة البناء الداخلي، بعيداً عن الثقل والتشتت، بالاقتراب من الحياة العملية والجمالية في ظل الدائرة العربية والإنسانية. وحين التقطها صدم الجميع، لكنهم بعد الصدمة راحوا يتأملون بعمق ما أبدعه. كانت الفيلا-المجتمع بحاجة لحسن أرابيسك.
برغم من حداثة عمر الشاب الذي كنته، إلا أنني التقطت الفكرة، التي ظلت في الوعي واللاوعي لديّ، وأنا وقتها المتخرج من مصر قبل المسلسل فقط بعامين، حيث أمكنني أن أكون شاهداً على التحولات هناك ما بين عام 1988-1992، كجزء من التحولات التي عصفت بالمجتمع منذ انفتاح السبعينيات، مدعوماً بالطبع بما قرأناه من روايات وما شاهدنا من أفلام.
"أريحية التعليم في المدارس"، تلك كانت عبارة الدكتور مروان عورتاني وزير التربية والتعليم، في سياق حديث قصير، لكنه يأتي في سياق فكري له، حول مستقبل التعليم، تحدث به وحوله خلال سنوات، قبل تقلده مسؤولية التعليم. وهو هنا باختصار، يقصد الوصول الى مدرسة متفرغة للتعليم بدون إثقالها بما لا يلزم.
وهو هنا يؤكد (ويعمق) ما تحدثنا به قبل سنوات، بأن قيمة أي عمل تربوي، من تدريب وتأهيل وأعمال إدارية هي في أن يكون له أثر في غرفة الصف وفضاءات المدرسة وسلوك الأطفال في المجتمع، باعتبارهم مواطنين وقادة مستقبليين.
لقد أعاد عورتاني الأمور الى أصولها، بعمق البساطة: الاطمئنان على وجود طالب صحيح الروح والجسم، (وأظنه مسكوناً بذلك كما سنرى من اهتمام صحي وتغذوي) ومعلم شغوف، وكتب مدرسة متوفرة وجميلة وتفعل شيئاً استراتيجياً للمستقبل.. تلك هي عناصر التعليم الأولية، التي يجب الاطمئنان عليها أولاً.
معي حق إذن أن أتذكر حسن ارابسك في استغلال اللحظة التاريخية، باتجاه واضح وهو التعليم، وتخليصه مما علق به، خاصةً في مراحل سابقة، وصولاً لأريحية التعليم، فقد كنا طلبة وكنا معلمين/ات يوماً مضى.
"إحداث فرق عبر تدخلات عميقة في بنية التربية والتعليم"، وعي متقدم لوزير مفكّر شغوف، يرى المبنى والعملية، وبفكر استراتيجيا، لا موضعيا، ولا جزئيا. أدرك خلال مسيرة حياته من تجربته وتجارب آخرين، هنا وخارج البلاد، أن إحداث الفرق هو مسؤولية وطنية وإنسانية وتربوية، فهو في تشخيصه العميق يبحث في هذه العملية عن مواقع وأدوات إن تم الإبداع في العمل عليها، ستعطي مخرجات تعم المجتمع المعرفي، لا الاكتفاء بما يسمى برامج ريادية أو النماذج. بمعنى أنه يسعى لطلبة فلسطين، والعالم العربي، الطلبة النخبة، لا نخبة الطلبة، وهذا ينسجم في فلسفة لتقييم الطلبة بعد تمضية 12 عاماً في المدرسة، بعيداً عن مجرد وصف ينتقص من تجربة الطالب. وهو في العمق، ينسجم مع رؤيته، الى بناء جيل فلسطيني جديد: المواطنون النخبة لا نخبة مواطنين فقط.
وحتى نكون منصفين، وأعيننا على هذه المسؤولية، خصوصاً فيما نشهده من استمرار الاحتلال، وأزمات المجتمع، فإننا بحاجة حقيقية لمفكرين، غير مضطرين لدفع أثمان سياسية ولا حزبية ولا حتى أيديولوجية. فمن يمتلك مشروعاً تنويرياً حقيقياً، فإن على النظام السياسي والمجتمع دعمه، لأن ذلك سيصب في خير كل أسرة الآن، وغداً.
مع جزيل الاحترام لكل من ساهم في تأسيس التعليم بعد قيام السلطة الوطنية، فإننا نذكر اثنين: المفكر الراحل بروفسور إبراهيم أبو لغد، الذي لم تتح له فرصة استكمال مشروعه الطموح كمؤسس للمناهج، ومروان عورتاني الوزير الحالي، والذي نود أن يتاح له إكمال مشروعه العميق، بغض النظر عن تغير الوزارات بل والنظام السياسي، كما تفعل بعض الدول، بسبب الإجماع على ضرورة استئناف العمل، خاصة في ملف التعليم، الذي لا يمكن أن يحدث أثراً في 100 يوم، بالطبع عام أو عامين. فلا يمكن الاستمرار في التشتت والتشتيت، لأن ذلك مربك للجميع، وينعكس سلباً على أطفالنا وطفلاتنا، كذلك فإن التغيير لمجرد التغيير، يغري آخرين للبدء من جديد، بدلاً من المراكمة النوعية على ما تم إنجازه.
عورتاني القادم من عالم "الرياضيات"، وبما بناه وتقلده من مسؤوليات بدءاً بمعلم وانتهاء برئاسة جامعتين، يمتلك كما يشهد له الكثيرون، رؤية مهمة للأسر والمجتمع، تنبع كما يبدو من شغف قديم متجدد، ومن محبة للأطفال، فقد كان كذلك، ولعله يستحضر ذلك في نفسه وزملائه دوماً.
مفكر أصيل لا يكرر نفسه، ما إن يتناول مفردة تربوية، حتى يرينا خارطة مفاهيمية منظومة معاً، يما يراه من جذور في البنية العميقة، لذلك نستمع دوماً لمصطلحات إبداعية غير معقدة، لا تسعى للاستعراض. ومن خلال هذا العمر تعلمنا، أن من لغته غير واضحة فمضمونه غير واضح.
وحنى نتعاون معاً، مقدرين لمستقبلنا المشترك هنا، لتلتقط هذه الفرصة، التي نجح نظامنا السياسي صراحة في التقاطها، لاستكمال البناء وفق فكر متنور حقيقي: عملية تحويل ذكية للأفكار التربوية الشغوفة والصريحة لدى الوزير المفكّر، باتجاه تحقيق مصلحة الطفل الفضلى، بحيث تتفاعل الروافع التربوية الموجودة والقادمة، بما لدى الجميع من خبرات متنوعة، بعيداً عن نفي الآخر داخل المؤسسة الواحدة، وداخل المجتمع التربوي المعرفي العام، باتجاه تركيز المدارس، وعدم تشتيتها ولا إثقالها، لمنح الطالب والمعلم ومدير المدرسة والمشرفين ومديري التربية فرصة التفرّغ أولاً للتعليم، لأن ذلك سيحل الكثير من المشاكل، وسينعكس العمل جميعه في غرفة الصف وفضاء المجتمع؛ ذلك أن التوتر والإرباك سيخف في الفضاءين، في ظل أنسنة واعية لهذه العملية، تراعيها مضامين وأشكال العلاقات داخل المدرسة وخارجها. سيتضمن ذلك كله تخليص وتحرير العمل التربوي في جميع عناصره مما يثقله، بدءاً بحقيبة أبنائنا وبناتنا؛ فإن لم توقظنا جائحة كورونا فمن سيوقظنا؟ هناك مباحث غير ضرورية ووحدات ودروس. من المهم التركيز على الأساسيات وهي معروفة، ولنترك للطالب والمعلم التحليق، مع أنهما، خصوصاً الطالب يحلق أفضل منا بجناحيه النشطين وشغفه الجميل. إن لم نفعل ذلك، فسنقدم على تمرد لا نعرف بعده تماماً، بسبب اغتراب الطلبة، في ظل تساؤلهم لماذا نتعلم كل هذا؟ وما ضرورته؟ وهو تمرد لن يقف عند حدود المدرسة، بل سيتجاوز ذلك الى التفكير بأمور وجودية حول الوطن والصراع والمذاهب والأفكار والأخلاق والمبادئ. فإما أن نكون مع الأطفال، وإما أن نستمر بإثقالهم وزيادة توترهم، وبالتالي تحول التمرد الى فوضى قد لا نستطيع لا حاكم ولا محكوم وقف تدهورها.
ما نحتاجه في عالم التربية والطفل هو المفكر لا السياسي..