حسناً فعلت اللجنة المركزية لحركة فتح باستخلاص ما ينبغي استخلاصه من عبثية حملة الاعتقالات السياسية. أمر ضروري أن تراجع الهيئة الأولى للحركة أداءها وأداء الأجهزة الأمنية، حيث يقود الأجهزة أعضاء في حزب السلطة، وحسن أن تعترف الحركة بالخطأ الجسيم والممارسات القمعية للأجهزة الأمنية.
لقد بات تنظيم حركة فتح في موقف لا يُحسد عليه بسبب التماهي التام مع الأجهزة الأمنية، وربما بسبب العجز عن قراءة المشهد العام والتغيير الحاصل على توجهات الرأي العام، واجتراح التجسير المطلوب وفقا لفهم في سياق شديد التعقيد.
وقد أكدت استطلاعات الرأي العام تراجعاً سلبياً وقع على مكانة حركة فتح وشعبيتها وأظهرت انتقادات وتحفظات واسعة على أداء المؤسسات التي تقودها. ومؤخراً، أظهر استطلاع مؤسسة «أوراد» في آب 2021 ارتفاع نسـبة الذيـن يعتقـدون أن الأداء الفلسـطيني يسـير في الاتجـاه الخاطـئ بواقع مـن 51% إلى 65% كما أيد 70% من المُسْتَطْلَعين تشكيل حكومة جديدة مُظْهراً ارتفاع التقييم السلبي لأداء الحكومة من 37% قبل مقتل «نزار بنات» إلى 55% بعد مقتله. ورأى 44% من المُسْتَطلعين أن الأجهزة الأمنية في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة تنتهك حقوق الإنسان بنفس القدر. وكان أكثر نسب عدم الرضا عن الأداء الحكومي يتصل على صعيد مجالات فرص العمل ومكافحة الفساد ودعم الشباب.
وفي ســؤال مهم تم توجيهه للمُسْتَطْلَعين حــول اتهام التظاهرات بعد مقتل «بنات» بأنها مؤامرة أعرب 60% منهم بأنه اتهام غير صحيح بينما اعتبر 13% منهم أن الاتهام قد يكون صحيحاً واعتبر 16% منهم أنه اتهام صحيح!
وتكاد تجمع النخب السياسية والثقافية على أن مسار السلطة وأداءها وخياراتها لا تختلف عن أداء الأنظمة العربية في التعامل مع المعارضة، فمعظمها وعلى اثر تحررها واستقلالها من الاحتلال والاستعمار واستلامها الحكم، تحولت وتغيرت وقمعت المعارضة ومارست الاعتقال بحقها ومنعت الاحتجاجات والتظاهرات والانتقادات ومنعت عليها حرية الرأي والتعبير وذهبت إلى شيطنتها واتهامها بالتعامل الخارجي، لتبرير القضاء عليها.
لا بد أن حركة فتح كحركة تحرر وطني قد تغيرت بعد اتفاق أوسلو في العام 1993، إلا أن الفرق الجوهري بينها وبين الأنظمة العربية يكمن في أنها حركة تحرر وطني قد استلمت الحكم والسلطة قبل حصولها على الحرية والاستقلال، ومن هنا جاء التفرد المطلق بالسلطة والحكم وتم قمع الحريات الديمقراطية. وبهذه الخصوصية والمعاني ليس بالضرورة أن يكون جميع أفرادها قد أصابهم التغيير حيث الظروف والمسؤوليات مختلفة تماما عن الأنظمة العربية.
لذلك، يصبح السؤال الذي يفرض نفسه على قيادة حركة فتح للإجابة عنه حول التأخر في إجراء المراجعة، والصمت على الاعتقال السياسي بل تبريره من قبل البعض، رغم صدور مرسوم رئاسي في شباط الماضي بشأن تعزيز الحريات العامة الشامل والملزم للضفة الغربية وقطاع غزة.
الإقدام على الاعتقال السياسي لرفاق الأمس يتم بينما المشروع الوطني يواجه المخاطر الكبرى، في ظل حكومة إسرائيلية لا تختلف عن سابقتها بترؤسها من قبل مستوطن مخضرم، وليس ثمة توقع موقف إيجابي من الولايات المتحدة لممارسة الضغط على حكومة الاحتلال لوقف الاستيطان والذهاب إلى عقد مفاوضات متوازنة على أرضية قرارات الشرعية الدولية، بعد أن حققت إنجازات خطيرة على صعيد القضاء على حل الدولتين.
بكل العبارات الصريحة، المراجعة والتقييم الذي أجرته اللجنة المركزية لحركة فتح لا يكفي، كونه يبدو أمام الرأي العام وكأنه تراجع تكتيكي تم بسبب الضجة الصاخبة للمجتمع الدولي. وسيبقى التراجع خطابا شفاهيا إلا إذا استتبع بإجراءات متوازية يُعمل عليها بإخلاص وعمق، تبني ما تدمر من علاقات وشراكة وطنية، وهز جوهرياً جسور الثقة، دون ذلك تفقد المراجعة صدقيتها.
استكمال المراجعة متطلب رئيسي، يقف على رأسها تحقيق العدالة للمغدور «نزار بنات» ومحاسبة المسؤولين عن قتلته والكشف عن ملابسات الجريمة بشفافية. استكمال المراجعة يتطلب وقف التحريض على المعارضة واحترام الحريات العامة التي أكّد عليها النظام الأساسي وكَفِلَها من أجل إعادة بناء النظام السياسي واستعادة وحدة الشعب على أساس المشروع الوطني الذي نتوحد عليه، ولا تأتي الوحدة دون شراكة واحترام التعددية ووقف التفرد والفردية، وقيل قديماً، إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
لا بد من استكمال المراجعة والتقييم الأوليين، لأن الخطر الوجودي يتهددنا، ومواجهته لا تتحقق إلا من خلال إجراء الانتخابات الحرة والديمقراطية والنزيهة، من أجل تجديد شرعية جميع هيئات منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية من خلال الاحتكام لصندوق الاقتراع.