رغم أن الرئيس الأميركي أجبر رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت على انتظار لقائه يوما آخر، بسبب العملية الانتحارية التي جرت في مطار كابول يوم الخميس الماضي، ورغم أنه التقاه لمدة أقل من نصف ساعة، إلا أنه يمكن القول بأن بينيت قد فرض موقفه على الرئيس الأميركي، الذي استمع إليه بصمت تجنباً _ربما_ لرد حاد وكل ما يهم البيت الأبيض هو عدم عودة بنيامين نتنياهو للحكم، ولم يكن هذا ناجماً عما أبداه البيت الأبيض من إضفاء الجو العائلي على الضيف الإسرائيلي حين التقاه بايدن في قاعة الطعام، ولكن لأن بينيت نفذ زيارة ناجحة، كانت معدة جيداً، بحيث مهد لها بلقاء وزيري الخارجية والدفاع، ثم حمل معه خطة تفصيلية لمواجهة إيران، وبذلك فرض على الرئيس الأميركي أن يتمحور الحوار معه على الملف الإيراني، وليس الفلسطيني.
ذهب بيينت إلى بايدن وهو يعلم حجم الهوة التي تفصل الموقفين تجاه الملف الإيراني، والتي تتركز في نقطتين، أولهما أن الولايات المتحدة على عكس إسرائيل، تريد العودة للاتفاق مع إيران وترى أنه عبر الاتفاق يمكن أن تمنع إيران من امتلاك القنبلة النووية، مقابل السماح لها بتنمية اقتصادها من خلال الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وثانيهما أن الولايات المتحدة لا تريد الدخول في حرب مع إيران، بالنيابة عن إسرائيل كما فعلت من قبل مع العراق، وإسرائيل رغم أنها ليست طرفاً في الاتفاق، إلا أنها تحتمي بأميركا، ولا تفكر في الدخول بحرب مع إيران وحدها. لذا ركزت الخطة الإسرائيلية على نقطتين هما: ضمانة أميركية بعدم امتلاك إيران للقنبلة النووية، وتعديل الاتفاق السابق المبرم في عام 2015، بحيث يتضمن بنوداً إضافية في حقول يتوافق فيها الموقفان الأميركي والإسرائيلي، وهي حقل النفوذ الإيراني في كل من العراق وسورية، لبنان واليمن، والتحكم بالممر المائي المتمثل ببحر العرب والبحر الأحمر، وثانيهما هو الإبقاء على الحصار، مستغلة تبديل الرئيس الإيراني.
بالنتيجة، سارت إسرائيل على طريق التوافق بين موقفي البلدين، وعدم التصادم، وها هي الولايات المتحدة قد بدأت بالحديث عن تردد إيران في متابعة التفاوض في جنيف، الأمر الذي سمح لبينيت القول بأنه قد مهد الطريق مع بايدن للدخول في حرب باردة مع إيران تشمل الإبقاء على الحصار، وعدم إبداء المرونة التي كانت تظهرها من قبل في مفاوضات جنيف، بإعلان استعدادها للعودة لاتفاق 2015، بحيث بدأت على ما يبدو تقتنع بضرورة تعديل الاتفاق.
والحرب الباردة مع إيران تذكر بالحرب التي كانت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، فهي لا تعني اندلاع حرب طاحنة عسكرية بينهما، لكنها تبقي على حالة العداء، وهذا ما تريده إسرائيل، لتحقيق هدف مزدوج، يتمثل في شل الاقتصاد الإيراني، وعرقلة النفوذ الإيراني الذي يحتاج لأموال لأجل تمويل الجهد العسكري لحلفائها الإقليميين، كذلك لإسقاط نظام الحكم، كما حدث مع الاتحاد السوفياتي، الذي كان سباق التسلح من جهة، والمقاطعة الاقتصادية من جهة ثانية سبباً في انهياره، في آخر مطاف حربه الباردة مع الولايات المتحدة والغرب الأوروبي.
أما بخصوص الملف الفلسطيني، فمن البداية كان موقف بايدن ضعيفاً، فهو لم يصر على رفع السقف، فلم يتم بحث إطلاق العملية السياسية أصلاً، وتقدم بند عدم طرد العائلات الفلسطينية في القدس، المطالب الأميركية، لذا فإن مطالب بايدن تلخصت في تحسين ظروف حياة الفلسطينيين، وهذا ما وافقه عليه بينيت، ومقابل عدم إعلان ضم أجزاء من الضفة الغربية، أعلن بينيت بكل وضوح أمام مضيفه الأميركي بأنه سيسمح بمواصلة البناء في المستوطنات، والخلاف بين الرجلين، ظهر في الإصرار من قبل بايدن على إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس.
بايدن قال لبينيت بأنه ينوي إعادة فتح القنصلية التي أغلقها دونالد ترامب عام 2019، ليرد عليه بينيت بالقول، بأن القدس عاصمة إسرائيل، ولن يسمح بأن تكون عاصمة لدولة أخرى، بحيث يمكن القول، بأن هذه النقطة بالتحديد هي التي تعتبر محل خلاف ما زال قائماً بين البلدين، خاصة وأن واشنطن كانت قد أعلنت نيتها إعادة فتح القنصلية في أيلول المقبل، مستندة إلى أن ذلك ليس تغيراً في الموقف، كما أنه ليس موقفاً جديداً، على اعتبار أن القنصلية كانت قائمة قبل عام 2019، كذلك إضافة إلى أن العديد من الدول الأوروبية بما في ذلك بريطانيا، لها قنصليات في القدس تقدم خدماتها للمواطنين الفلسطينيين.
مجمل القول، إن إدارة بايدن ما زالت مترددة أمام إسرائيل، وربما أن خروجها الذليل من أفغانستان، الذي ترافق مع هجوم من الجمهوريين على إدارة بايدن، التي ظهرت كإدارة ضعيفة حين وقعت العملية الانتحارية في مطار حامد كرزاي بكابول، والتي أوقعت 13 قتيلاً أميركيا، إضافة لثمانية عشر جريحاً، قد عزز تلك الصورة، بحيث جلس بايدن أمام بينت كمستمع، بل إنه غفا كما ضبطته الكاميرات، في مشهد ذكّر بما كان يطلقه عليه خصمه دونالد ترامب بقوله "بايدن النعسان".
لقد خدم توقيت الزيارة الجانب الإسرائيلي، بحيث أن واشنطن باتت حائرة إزاء المطالبات المتصاعدة بإنجاز انسحابها من العراق وسورية، وهذا يعني ترك الشرق الأوسط لكل من روسيا وإيران، أما أفغانستان التي انسحبت منها، ممنية النفس في إبقاء حليف كان عدو الأمس وهو طالبان، ليبدو أن مراهنات واشنطن كانت خاطئة، فطالبان لم تستجب أولاً لمطلب الغرب بتمديد الموعد النهائي للانسحاب لتأمين خروج آمن لقواتهم ولمن كانوا يتعالمون معهم وللراغبين بالهجرة لخارج البلاد، ثم ها هي تستعين بطرف آخر لإدارة المطار وهو تركيا، وهي منافس إقليمي آخر، بما يعني بأن أميركا فعلاً تنسحب من الشرق الأدنى ومن الشرق الأوسط، فيما تبقى إسرائيل وحدها في مواجهة منافسيها: إيران وتركيا وروسيا.
وذهاب طالبان لتركيا الإسلامية السنية، يقطع الطريق على أميركا بتحويل طالبان لعميل كما كانت حكومات العراق مثلاً، يخدمها في التأثير السلبي على المثلث المنافس: الصيني الروسي والإيراني والذي يلتقي في أفغانستان، بقي أن نشير إلى أن بغداد شهدت في الوقت نفسه مصالحات عربية خليجية، حيث التقى محمد بن راشد نائب رئيس الإمارات وزير خارجية إيران والرئيس المصري بأمير قطر، وهذا يعني بأن إسرائيل عادت لتكون بحاجة لأميركا بشدة كما كان الحال دائماً.