جرت مبالغة في توصيف اللقاء المطول الذي اجراه وزير الامن الإسرائيلي بيني جانتس مع الرئيس محمود عباس، حين وصف بالاختراق ورفع مستوى العلاقة. وهذه المبالغة يفترض ان لا تكون مستغربة لأن الصوت يتضاعف صداه مرات ومرات بفعل الفراغ.
كان قد سبق اللقاء تشويق ذو طابع درامي بفعل ما كان يتسرب من اخبار حول الجهود المبذولة لاتمامه، حتى حين قام الرئيس عباس بزيارته الأخيرة للاردن قيل ان لقاءه بجانتس اما انه تم او انه في سبيله الى ان يتم.
ان لقاءً كهذا وفي ظرف كالذي نعيش ينبغي ان يناقش بموضوعية بعيدا عن ثنائية الضد والمع، التي تشكل مضمون مواقف القوى السياسية، فمن مع عباس هم حكما مع كل ما يفعل، ومن ضده فهم تلقائيا ضد كل ما يفعل، وهذا اذا كان الأكثر تداولا في اعلامنا وسجالاتنا وتقويماتنا الا ان تأثيره الفعلي لا يقدم ولا يؤخر، ذلك ان الناس لهم مقاييس مختلفة عن مقاييس أصحاب الاجندات المحكومين بمعادلة الصراع على النفوذ.
جانتس كما ظهر من ردود الفعل الإسرائيلية لم يكن بحوزته تفويض يعتد به لا على صعيد حجم التسهيلات المقترحة للفلسطينيين والتي هي أصلا حقوق فلسطينية وليس هبات إسرائيلية، ولا على صعيد الحديث في الشأن السياسي وهذا ما اضعف بصورة ملحوظة إيقاع اللقاء.
وجانتس كذلك ومن خلال ما هو متوفر لديه من معلومات استخبارية هو الأكثر دراية بالأوضاع الفلسطينية الداخلية التي وصفها هادي عمرو بالغابة الجافة الجاهزة للاحتراق بعود ثقاب، لذا كان بديهيا ان يختار توقيتا موات ليحصل على اعلى ثمن يمكن جبايته من الفلسطينيين والثمن الأعلى هو نقل العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية من مسارها السياسي الى مسار خدمات اقتصادية، واختلافه مع بينيت في هذا الامر هو في الواقع على الجرعة والطريقة وليس على المبدأ والهدف.
لا اصدق ما يوحى به إسرائيليا من ان اللقاء او ما جرى فيه من احاديث جرى من وراء ظهر بينيت، فهذا مستحيل وفق التركيبة الإسرائيلية وأداء المسؤولين فيها لوظائفهم، غير ان اظهار الانزعاج من جانب بينيت كان ضروريا لاحتواء رد فعل اليمين المتشدد الذي يعارض بل ويقاوم أي اتصال على أي مستوى مع الفلسطينيين، وفيما يتصل بالتوقيت وفق التقويم الأمريكي فإن اللقاء يمكن الاستفادة منه كتلبية عاجلة لمطلب امريكي وهو تقديم تسهيلات محددة ترى انها تطيل عمر السلطة وتنفس الاحتقان الشعبي في مناطقها اذ لم يكن اجتهادا او بالصدفة ان يتم اللقاء الذي كان ممنوعا في السابق بعد زيارة بينيت ولقاءه ببايدن في البيت الأبيض.
الفلسطينيون المنقسمون على كل شيء، ينشدون تسهيلات يرون انها حق لهم وضرورية لمواصلة حياة الحد الأدنى خصوصا تلك التي تهيمن على غزة، الا انهم في ذات الوقت يخافون من تداعيات انقلاب الصيغة بحيث يصبح الحل الاقتصادي المتحفظ عليه تاريخيا هو الأساس كبديل عن السياسي المغلق باحكام.
مطالبة الفلسطينيين بحقوقهم المالية والإنسانية والحياتية المصادرة من قبل الاحتلال امر بديهي لا يعابون عليه الا ان ما يخشونه حقا هو التوغل في البديل الاقتصادي مع شعور فلسطيني بالاسف على ان سوء الأداء الفلسطيني يشكل الباب الاوسع الذي يدخل منه الحل الاقتصادي كبديل إسرائيلي.
دائما وبعد كل تحليل ينهض سؤال ما هو المخرج اذا، لا يوجد مخرج سحري وفوري، غير ان الأقرب الى المصلحة هو التفرغ الكلي لمعالجة الوضع الداخلي الفلسطيني وعدم الاختباء وراء جملة ان إسرائيل تعوق ذلك، الا ان المصلحة تحتم مواجهة نكون فيها على الجانب الصحيح من المعادلة ومهمتنا بعد كل هذا الاغلاق للمسار السياسي ان نخوض معركة احياء عمل المؤسسات الوطنية وخصوصا وحصرا المنتخبة منها، بدءا من اصغر جمعية خيرية الى المجالس المحلية ثم البرلمان والرئاسة، ذلك وفق مبدأ معمول به في كل المجتمعات المشابهة لنا بل وحتى الأصعب والذي يقول ان الانتخابات ان لم توفر حلا لكل المشاكل والمعضلات الا ان لا مشكلة او معضلة يمكن حلها بدون الانتخابات.