تثير الغرابة موجة التعليقات التي تنطوي على اتهامات صعبة وإدانات واستنكار، اثر اللقاء الذي جمع وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس بالرئيس محمود عباس، مؤخراً. هذه الموجة من الاتهامات تتابع سياقاً عاماً تحكمه العلاقات الفلسطينية الفلسطينية، منذ بداية الانقسام وفي ظل استمراره. يتربص كل طرف بالآخر، والفرص كثيرة لاندلاع مثل هذه الاتهامات على خلفية الرؤى السياسية، إزاء كل شيء تقريباً. لا تفيد مثل هذه الحملات أحداً، ولا تخدم القضية الفلسطينية، والسعي من قبل الجميع نحو إعادة ترميم العلاقات الفلسطينية، وإعادة بناء الشراكة الوطنية على أسس من الشراكة، والالتزام بحق الشعب في انتخاب ممثليه.
الرسائل التي تصدر عن مثل هذه الحملات، لا تخدم حتى التحريض الشعبي ضد الطرف الآخر، بعد ان تسبب كل ما مضى من انقسامات واختلافات، وصراع، في ان يحسم المواطن امره سلفاً مع او ضد هذا الطرف. أما ما تبقى فإنه يذهب، نحو تبرير سياسات الاحتلال التي تتغول على كل طرف لوحده، فضلاً عن تقديم خدمة مجانية للمطبعين لكي يستندوا اليها في تبريراتهم لما يفعلون، حتى وان كانت دوافعهم مصلحية ولا علاقة لها بما يجري على الساحة الداخلية الفلسطينية.
في الأساس فإن اللقاء المذكور، لم يكن الأول ولا الوحيد، فلقد سبق ان استقبل الرئيس عباس وفوداً من الصحافيين، ونواباً لأحزاب إسرائيلية مشاركة في الائتلاف الحكومي منهم احزاب «العمل» و»ميرتس». وفي الأساس فإن السلطة لم تقطع علاقاتها باسرائيل، وبأنها تجاوزت قراراً سابقاً، بوقف التنسيق الأمني، ووقف التعامل مع جملة من الاتفاقيات التي تتضمنها اتفاقية أوسلو.
ثمة رؤية سياسية تتفق أو تختلف معها، تشير الى ان المنظمة والسلطة لا تزالان تلتزمان نهج البحث عن التسوية السياسية، وتلتزمان القرارات والقوانين الدولية، وبما ورد في اتفاقية أوسلو، أو ما سبقها من اشتراطات، ولذلك فإن اللقاء لا يكسر مساراً مختلفاً ولا يشكل انتكاسة، أو تحولاً عن نهج موجود ومعروف للجميع.
السلطة تعلن التزامها بالتنسيق الأمني، ولا تستطيع في وضعيتها القائمة تجنب الاتصالات واللقاءات مع الإسرائيليين الرسميين، اذ ان حياة الفلسطينيين في الضفة، مرتبطة الى حد شديد التداخل بالاحتلال الموجود على الأرض، ويكبّل حياة الفلسطينيين.
كان من المفهوم ان تتركز الانتقادات على عنوان مقبول يتعلق بالعلاقة واللقاءات والحوارات بين الاطراف الفلسطينية كأولوية، على أي لقاءات أخرى، ومن اجل اصلاح الوضع الفلسطيني، الأمر الذي لا يبدو أن له مخرجاً في الظروف الراهنة. أساساً فإن العلاقة واللقاءات بين الفلسطينيين لا تحتاج إلى وسطاء، ولا إلى فاعلي خير، فذلك أولى من أي لقاءات مع أطراف أخرى، وبالأحرى مع الاحتلال.
علينا أن نلاحظ السياق الذي يجري فيه اللقاء والتفاعلات التي ستلي ذلك، فلقد كان رئيس الحكومة المستوطن نفتالي بينيت رفض طلب وزير دفاعه غانتس للقاء الرئيس عباس، قبل أن يتحرك للقاء الرئيس بايدن في البيت الأبيض.
ثمة دلالة لذلك، اذ ان بينيت وحكومته، ما كان سيقبل إجراء مثل هذا اللقاء، او غيره، لولا انه كان مضطراً، للالتزام بالأوامر التي استمع اليها من الرئيس جو بايدن.
كل شيء اختلف بعد ذلك اللقاء، ما يعني ان حكومة بينيت التي تحرص على بقائها واستمرارها لا تستطيع الدخول في سجال او مواجهة مع الادارة الأميركية، كما كان يفعل بنيامين نتنياهو، الذي دخل في مواجهة مكشوفة مع ادارة الرئيس الأسبق باراك اوباما، ووجه له ولرموز من ادارته اهانات علنية متتالية.
الأوامر الاميركية تقول بوضوح ان هذه المرحلة لا تحمل مؤشرات فتح المسار السياسي التفاوض على أساس رؤية الدولتين، وأن الانتقال الى هذه المرحلة يتطلب وقف الاستفزازات الإسرائيلية التي تتسبب بتوتير الأوضاع في الضفة، والمبادرة الى مرحلة إعادة بناء الثقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.
صحيح أن الملف الفلسطيني الإسرائيلي ليس من بين الأولويات الأساسية للإدارة الأميركية، ولكن من غير المسموح، ان تفرض ممارسات الطرفين هذا الملف على أولويات الأجندة الأميركية المرهقة والخطيرة.
للمرة الأولى منذ عقود توافق إسرائيل على ما انتجه لقاء غانتس مع الرئيس عباس، وهي جزء من جملة طلبات تقدمت بها السلطة لإسرائيل والوسطاء. ما تم الاتفاق عليه يقدم خدمة للفلسطينيين، وإن كان ذلك بالمعنى العملي يعزز فكرة السلام الاقتصادي، والمرفوضة اصلاً من قبل الاوساط اليمينية المتطرفة في اسرائيل، التي تعمل استراتيجياً على طرد الفلسطينيين من ارضهم في القدس والضفة وحتى الداخل الفلسطيني.
في الفكر الصهيوني الاستراتيجي لا توجد لغة سلام، لا سياسي حقوقي ولا اقتصادي ولا اجتماعي او حتى أمني او ثقافي. الاوامر الاميركية ذاتها تنسحب على قطاع غزة، فقد اتخذت اسرائيل تباعاً جملة من الاجراءات التخفيفية على اوضاع الناس في القطاع، بدون مفاوضات او وساطات.
بدا الأمر أكثر وضوحاً بعد عودة بينيت من البيت الابيض، فبالرغم من الانتقادات الموجهة لحكومته، بسبب صمته في مواجهة البالونات الحارقة، حيث توقفت اسرائيل عن القصف الذي تعودت عليه، فضلاً عن فتح كرم ابو سالم على نحو واسع، وتسهيل وصول المنحة القطرية، وتوسيع مساحة الصيد البحري الى خمسة عشر ميلاً، وزيادة عدد التصاريح التجارية، إلى سبعة آلاف. هذه هي السياسة العامة المفروضة على حكومة بينيت، الأمر الذي تستبعد معه ان تقع انفجارات كبيرة في الضفة او مع غزة. هذا المناخ يوفر للفلسطينيين فرصة، لإعادة ترميم أوضاعهم وعلاقاتهم الداخلية.