لعلّ أسوأ وأخطر ما وقع للقضية الفلسطينية أمران أساسيان. الأول، يتعلق باستعداد الفلسطينيين واقعاً، للتحول في السياسة الممارسة عن أصل الرواية، والقبول بالرواية التي تستند إلى قرارات الشرعية الدولية التي تحصر الحقوق الوطنية في الأراضي التي احتلتها إسرائيل العام 1967.
أما الثاني، فإنه يتعلق بقبول الفلسطينيين سياسياً رسمياً وعلنياً بالهبوط عن السقف الذي حددته الأمم المتحدة، والخاص بحق الشعوب المحتلة أراضيها في استخدام كافة أشكال النضال بحيث اصبح الكفاح المسلح، والأشكال الخشنة من النضال، تصنف باعتبارها إرهاباً.
من يجرؤ هذه الأيام على القيام بمراجعة عامة عميقة وتاريخية للمسار الذي اتخذته، وسارت عليه الثورة الفلسطينية العملاقة، التي أحدث اندلاعها تغيرات كاسحة ابتداءً من 1965، ثم إلى 1967، والتي بلورت الهوية الوطنية، ووحدت الشعب، وحصرت تمثيله بمنظمة التحرير، ووضعت القضية على الخارطة الدولية.. لم يمض وقت طويل على اندلاع الثورة، حتى استعجلت في إقرار البرنامج المرحلي العام 1974، دون إدراك عميق للطبيعة التوسعية للمشروع الصهيوني، ودون حساب دقيق لميزان القوى، الذي سيؤدي لاحقاً إلى أن يصبح المرحلي استراتيجيا دون القدرة على تحقيق المرحلي. ما يحول دون تحقيق سياسة إسرائيلية توسعية وعنصرية، لا يحتاج الأمر إلى منجّمين أو فلكيين، حتى يأخذ الفلسطينيون في حساب سياساتهم، أن جوهر المشروع الصهيوني وادعاءاته في فلسطين يضم الضفة الغربية التي يسمونها يهودا والسامرة، وأيضاً القدس.
في القراءة كان من المفروض أخذ التطورات في الإقليم بعين الاعتبار عند إقرار البرنامج المرحلي، وفي مركز تلك التطورات نتائج حرب أكتوبر العظيمة، التي قرأها الفلسطينيون بشكل صحيح على أنها حرب تحريك وانها تمهد لتسوية بين إسرائيل ومصر وان ذلك سيترك تصدعاً خطيراً في الجبهة العربية الرسمية، والمقاومة للاحتلال.
بموازاة ذلك، ثمة قراءة غير دقيقة، لموازين القوى الجاري واللاحق حيث استند التغيير في الهدف الوطني العام، إلى وضع عربي كان افضل وإلى أن الثورة الفلسطينية جزء أصيل ولا يتجزأ من معسكر التحرر العالمي الذي تقوده المنظومة الاشتراكية والتي تخوض صراعاً على قدم وساق مع المعسكر الرأسمالي.
في المقارنة سنجد أن المشروع الصهيوني كان وظل يحصل على دعم من المعسكر الرأسمالي الاستعماري، بالمال والسلاح وبالسياسة، باعتباره مشروعا استعماريا دوليا.
في المقابل لم تحصل الثورة الفلسطينية من المعسكر الاشتراكي، سوى على دعم سياسي عام لا ينطوي على نزعة هجومية أو مبادرة لتحقيق قرارات الأمم المتحدة، وأسلحة بدائية قديمة، ومنح دراسية، وتدريبات بالإضافة إلى مجهودات المناصرة الشعبية عبر منظمات واتحادات مطلبية دولية.
 تجربة الحروب العربية الإسرائيلية العام 1967، والعام 1973، وطبيعة الدعم العسكري والسياسي الذي تتلقاه إسرائيل من حلفائها، وذلك الذي تتلقاه المنظومة العربية من المعسكر الاشتراكي، تشير إلى فارق نوعي كبير لصالح إسرائيل.
ربما علينا أن نعود لفتح ملف المسألة اليهودية من جديد، وأسباب ودوافع الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، للاعتراف سريعاً ومبكراً بدولة إسرائيل، السؤال هنا، إذا كانت الدول الاستعمارية أرادت التخلص من اليهود الذين لم تنجح في إدماجهم عبر قرون عديدة، ووظفتهم لإقامة دولة ومشروع يخدم مصالحها، ويتكفل بإجهاض أي مشروع نهضوي قومي عربي، فهل الاتحاد السوفياتي، ودول المنظومة الاشتراكية أرادت هي الأخرى التخلص من اليهود الموجودين في مجتمعاتها؟
وبينما قاتلت وتقاتل الدول الاستعمارية للدفاع عن إسرائيل وحمايتها وتحقيق تفوقها، فماذا يمكن أن نقول عن دور المنظومة الاشتراكية ومشتقاتها والصين، الذين يحسبون على انهم مؤيدون للحقوق الفلسطينية؟ الأمر لا يتعلق فقط بالماضي والراهن، وإنما يذهب إلى مستقبل المتغيرات الدولية التي قد تحمل الصين إلى قمة النظام الدولي الذي يتشكل، والسؤال: أليس النضال في ساحات الدول الداعمة لإسرائيل أكثر جدوى من المراهنة على مواقف دول حليفة للفلسطينيين، تكتفي بالدعم اللفظي لحقوقهم كما رتبتها الشرعية الدولية؟
في هذا السياق تتابعت التراجعات الفلسطينية والعربية إزاء العلاقة بين المرحلي والاستراتيجي، إذ أقرت قمة فاس المغربية العام 1981، مشروع الأمير فهد بن عبد العزيز للسلام، الذي تبنى الهدف المرحلي.
بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، وما تعرضت له منظمة التحرير ومقاتلوها، ذهبت المنظمة إلى ما يعرف باتفاق عمان، ثم إلى الاعتراف بقراري مجلس الأمن (242) و(338) في الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني، ما أسس لما يعرف بمبادرة السلام الفلسطينية.
تغيرت الأوضاع العربية، وانتقلت من انقسام وصراع إلى آخر، ونشبت معركة «عاصفة الصحراء»، وجرى ما جرى، وانعكس كل ذلك على أوضاع الفلسطينيين، وخلال تلك الفترة اندلعت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى.
لقد استعجل الفلسطينيون استثمار تلك الانتفاضة وراهنوا على أن بإمكانها، أن تفرض على إسرائيل وحلفائها، التعاطي الجدي مع مبادرة السلام الفلسطينية لكن هذا لم يحصل.
لم تكن أوضاع المنظمة جيدة لا عربيا ولا دوليا، خصوصا بعد أن انفردت الولايات المتحدة بإعلان النظام العالمي الجديد بقيادتها من الكويت وبعد أن تفككت المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي، ولكن ذلك لم يكن ليبرر قبول المنظمة بالشروط الأميركية لمجرد فتح حوار معها.
حملت تلك الشروط تنازلا تاريخيا خطيرا إذ اعترفت المنظمة بحق إسرائيل في الوجود، وتخلت عن الميثاق الوطني بصيغة مواربة، وأعلنت نبذ الإرهاب. في تلك الشروط، ما ينطوي على اعتراف ضمني بأن ممارسة الفلسطينيين للكفاح المسلح، هو إرهاب، وأنها لن تعود إليه، ما أسس لبداية تعميق مفهوم ومحددات الإرهاب، بعيدا عن قرارات الشرعية الدولية، والقيم التحررية.
لم تقبض منظمة التحرير أي ثمن مقابل موافقتها على الشروط الأميركية، سوى فتح قناة اتصال عبر السفير الأميركي في تونس. يمكن للبعض أن يجادل في أن تلك التراجعات كانت إجبارية، وان الهدف منها حماية المنظمة، التي تعرضت لضغوط شديدة وحصار مالي وسياسي، ساهم فيه النظام العربي المتهتك الضعيف، والمنقسم بل والمتصارع على خلفية الاجتياح العراقي للكويت. هذا يعني أن اتفاقية أوسلو، كانت نتيجةً وسبباً فيما وصل إليه الفلسطينيون اليوم، فهي كانت محصلة سياق طويل من التطورات الخطيرة، والتراجعات المتلاحقة للسياسة الفلسطينية.
لعل التجربة الفلسطينية خلال المرحلة الراهنة منذ أوسلو، قد أثبتت أن إسرائيل ليست في وارد التفاوض مع الفلسطينيين على أساس ولتحقيق قرارات الشرعية الدولية التي يقوم عليها المشروع الوطني الفلسطيني الذي أراده الفلسطينيون مرحلياً، وتحول إلى هدف استراتيجي على الأرجح انه غير قابل للتحقيق.
سيترتب على الفلسطينيين أن يدفعوا ثمناً كبيراً، لاستعادة الصراع على أساس الرواية التاريخية، وما كان عليهم أن يسقطوا على التجربة الفلسطينية التحررية دروسا سياسية، لتجارب أخرى تحررية وناجحة، في الحالة الفلسطينية الأمر لا يتعلق بدولة تحتل أرضا وشعبا آخر، وإنما بمشروع شامل وجذري يسعى لشطب الشعب، والاستيلاء على ارضه بالقوة الغاشمة ما لا يسمح بتجزئة الأهداف التحررية إلى مرحلي واستراتيجي على النحو الذي وقع.
مع ذلك فإن الرهان يعود إلى أن إسرائيل بأطماعها التوسعية، ورفضها للقرارات الدولية، هي من ستعيد الصراع إلى أصله بما أنه تصادم بين روايتين تاريخيتين تنسف كل منهما الأخرى.