سيرى بعض الفلسطينيين في استراتيجية تقليص الصراع فرصة "نادرة"، وسيرى بعض العرب، وربما أكثرهم أن هذه الاستراتيجية هي "فنّ الممكن" وفرصة لا يجوز أن "تضيع" كما "أضاعت" القيادات الفلسطينية فرصاً كثيرة قبلها، وقد تتبنى الإدارة الأميركية مثل هذه الاستراتيجية مع تعديل هنا وآخر هناك، وقد لا يذهب "المجتمع الدولي" أيضاً إلى ما هو أبعد منها "مراعاة" للظروف المحيطة و"انسجاماً" مع معطيات الأمر الواقع.
كل هذا ممكن ووارد، وهناك من يعتقد أنه بات مرجّحاً، والأقرب إلى مفهوم الإمكانية الواقعية.
أما لماذا يرى كل هؤلاء في هذه الاستراتيجية الفرصة النادرة التي لا يجب ان تضيع، فهذا يعود لأسباب تراها هذه الأطراف ـ كل من زاويته ـ آليةً مناسبة للحفاظ على درجة "معقولة" من "الهدوء" المطلوب في هذه المرحلة، إضافة الى ان مثل هذه الآلية تلبي درجة أخرى من "المصالح" الملموسة لهذه الأطراف الى حين "نضج" الواقع نحو المزيد من الإجراءات والترتيبات التي من شأنها في حينه ان تؤسس للانتقال الى مرحلة "أعلى" من تقليص الصراع والتخفيف من منسوبه القابل للانفجار في وجه الجميع اذا فشلت الجهود في الحد من وصوله الى هذه النتيجة.
وبالملموس فإن القيادة الشرعية والرسمية ستعتبر أن من شأن الذهاب نحو هذه الاستراتيجية الحفاظ على السلطة الوطنية، والحفاظ على درجة معينة من بقاء، وربما استقرار النظام السياسي، والعمل على "استكمال" المفاوضات حول قضايا الحل النهائي طالما ان هذه الاستراتيجية لا تفترض ولا تتطلب انهاء الصراع في هذه المرحلة.
فقط إذا جرى "تأبيد" هذه الاستراتيجية، وتحويلها الى "أوسلو" جديد، وإلى متاهة تفاوضية، وحينها فقط سترفض هذه القيادة تلك الاستراتيجية وقد تتمرد عليها بقدر ما سيكون متاحاً لها ذلك.
المطبّ السياسي الذي يمكن ان يقع هنا هو المراهنة على تحويل هذه الاستراتيجية الى إجراءات متواصلة دون هدف سياسي ملموس على صعيد الاستقلال السياسي، وعلى صعيد وضع جداول زمنية محددة، وأسس ومبادئ وقواعد معترف بها للبت بشأن قضايا الحل النهائي.
كما ان هذه الاستراتيجية من خلال "الاعتراف" الشكلي "بالدولة"، ومن خلال "تمويه" قضايا الحل النهائي، ومن خلال الإيحاء والإيماء بأن هذه القضايا موجودة على جدول الأعمال اللاحق يمكن أن توقعنا في مطب جديد ربما يكون أخطر وأكبر من مطب أوسلو نفسه، بل ربما سيؤدي إلى "اعتبار" الحل النهائي نتيجة منتظرة وواقعية بالمقارنة مع "استحالة" هذا الحل تفاوضياً بصورة مسبقة، او "استحالة" تحقيق هكذا حل بدون آليات تنضج من خلال فترة زمنية طويلة من علاقات "بناء" الثقة.
وبالذهاب الى موقف حركة حماس فإن هذه الاستراتيجية تناسب مصالحها الخاصة لأنها (أي الاستراتيجية) تبقي على نظامها السياسي، وهي لا تحتاج في هذه الحالة الى الدخول في النظام السياسي الفلسطيني وهي ليست مضطرة لإنهاء الانقسام، وستعتبر ان قضايا الحل النهائي من مهمة السلطة الوطنية، وليست من مهماتها الخاصة او مسؤولياتها المباشرة الا بقدر ما يتعلق الأمر بالدعاية السياسية والتحريض، بل وحتى التشكيك والتخوين.
حركة حماس من خلال مفهوم "الهدنة الطويلة الأمد" التي نعرف جميعاً أنها احدى ركائز رؤيتها للصراع هي واقعياً مع هذا التوجه.
وهنا أيضاً فإن الموقف الذي ستحاول حركة حماس التعامل به مع استراتيجية تقليص الصراع هو القبول الضمني به، والاستفادة من مخرجاته، دون أن تدفع ثمناً مباشراً، ودون ان تتخلى عن سيطرتها على القطاع، ودون أن تبدو وكأنها جزء من الترتيبات، ودون أن تتخلى عن شيء سوى إنهاء مشروع المقاومة تحت يافطة "الهدنة الطويلة"، وتحت ستار الطابع "المؤقت" لهذه الاستراتيجية، وهو الأمر الذي تدركه حركة حماس منذ زمن بعيد، ومنذ أن أبدت استعدادها (تحت ذريعة عدم الاعتراف بإسرائيل) للقبول بالدولة ذات الحدود المؤقتة.
المراهنة هنا أن يتم "إيهام" الفلسطينيين بأن استراتيجية تقليص الصراع ليست "حلاً" بديلاً، وأنها مجرد آليات تتعزز مع مرور الزمن نحو "الحل"..!
وهنا بالضبط يكمن المطب السياسي، وهنا بالضبط تكمن الخديعة الكبرى.
وفي الواقع ليس هناك من اي حل، وليس هناك اي بديل لأي حل، لأن استراتيجية تقليص الصراع ليست الا الحل الممكن وربما الوحيد لإسرائيل، وأزماتها.
أما كل ما عدا ذلك فهو مجرد "كرستة" سياسية لهذا الحل الإسرائيلي، ومجرد "عدة النصب" التي نعرفها في الوعي الشعبي.
وكما أسلفنا في مقالات سابقة فإن هذه الاستراتيجية طرحت من الجانب الإسرائيلي، وجرى "تطويرها" لكي تكون في صلب التوجهات الأميركية والإسرائيلية وأيضاً العربية بقدر ما هو ممكن ومتاح.
أكرر هنا أن أستاذ التاريخ الإسرائيلي، والمقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي نفتالي بينيت هو الذي "بادر" إلى طرحها.
لقد أوضح ميخا غودمان استراتيجيته في نقاط ثمان تتمحور كلها في إعطاء الفلسطينيين شعوراً "بابتعاد" الاحتلال، وبقدر عالٍ من الاستقلالية الاقتصادية، وبالسيطرة على الطرق والجسور التي تربط "كافة" المناطق الفلسطينية في الضفة، والى اعتراف إسرائيلي بالدولة الفلسطينية ـ دون حدود ـ وعلى توسيع كبير في مناطق (أ)، وإلى تقاسم السيطرة الاقتصادية على المنطقة (ج)، وإلى إنشاء قسم خاص للفلسطينيين في مطار "بن غوريون"، وإلى إنشاء أرصفة خاصة في الموانئ الإسرائيلية، وإلى استمرار وتصاعد وتعزيز هذه الإجراءات بصورة مستمرة وصولاً إلى إعادة نظر شاملة بكامل اتفاقية باريس الاقتصادية، إضافة الى إنشاء مدن صناعية ضخمة. لا يوجد حرف واحد حول القدس او الحدود الثابتة، كما لا يوجد حرف واحد عن حق العودة، ولا حرف واحد حول الأسرى أو الموارد أو أي شيء من هذا القبيل.
الولايات المتحدة، والجانب العربي، والجانب الدولي، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، وربما أطراف دولية أخرى هي التي ستحاول ان تجد روابط "ما" ما بين هذه الاستراتيجية وقضايا الحل النهائي، او بالأحرى "تسويق" هذه الروابط علينا.
وبما أن الاستراتيجية بهذا المعنى ليست "حلا نهائياً" فليس لدى إسرائيل مشكلة في أن يتم الحديث عنها نظرياً، وبما أن "الدولة" ليست محددة بحدود من أي نوع كان فليس لدى إسرائيل مشكلة كبيرة، وبما أن كل شيء سيعتمد على "تعزيز" إجراءات الثقة، وليس وفق معايير الشرعية الدولية والقانون الدولي، فليس لدى إسرائيل مشكلة خاصة على كل هذه الأصعدة.
تمّ "اختراع" هذه الاستراتيجية لأن إسرائيل لا تستطيع الاتفاق مع المجتمع الدولي للحل، ولكنها لا ترغب بالصدام معه.
وتم اختراع هذه الاستراتيجية لأن المجتمع الإسرائيلي الذي لا تنقصه الانقسامات سينشطر عمودياً وأفقياً، إذا وافقت أي قيادة إسرائيلية على أي حل على أساس القانون الدولي.
وتم "اختراع" هذا الحل لأنه يوهم بالحل ولا يحققه، ويحاول ان يخدع الفلسطينيين وهم بحاجة الى أسباب وذرائع "للانخداع" بسبب صعوبة أوضاعهم وبسبب انقساماتهم، وبسبب تضارب المصلح بين مراكز القرار لديهم.
ولهذا بالذات فقد وصفت هذه الاستراتيجية بالجهنمية، لأنها فعلاً خطيرة، مدروسة بعناية وتستجيب للمصالح العليا الصهيونية، وقد تتمكن من الاستثمار في العقل السياسي الرخو، وفي مصالح "السلطات" المتناقضة لدينا، وفي الأجندات الحزبية الخاصة لدى البعض منا.