في تشابه الظروف في أماكن مختلفة وأزمنة، تتكرر سلوكيات، وتظهر أفكار، ومنظومات. لعل تلك نظرية كلاسيكية ترى الإنسان ابنا وبنتاً لبيئتيهما، والبشر. ولكن ثمة دور دوماً للإنسان.
والحياة هي المختبر الطبيعي والحقيقي لا النظريات. وأروع الفنون والآداب ما كانت فعلاً حقيقية لا متكلفة.
تُرى هل كانت ظروفهم الاقتصادية (والسياسية والوجودية والوطنية وغيرها) مبرراً كافياً لقبولهم هذه الأدوار العجيبة غير المقبولة أخلاقياً ولا إنسانية؟
 في فيلم «القاهرة 30» نلتقي محجوب عبد الدايم، الخريج العاطل عن العمل، إحسان ابنة الأسرة كثيرة العدد والفقيرة، شحادة والد إحسان ووالدتها، وسالم الإخشيدي، مدير مكتب قاسم بك وكيل الوزارة، بل وقاسم بك نفسه، الوكيل والوزير فيما بعد. وربما صدقي والملك..
الزوجان محجوب وإحسان، وقبول الأمر الواقع لقاسم بك بمشاركته البيت، وغض بصر الأب والأم عما يحصل، بسبب أعطياته، بل والقبول الضمني المستتر لأمر ما لدى سالم الإخشيدي مقابل تعيينه مديراً لمكتب وكيل الوزارة قاسم بك. سالم العازب غير المتزوج، (كثير النقد للحكومة ومثلها كثيرون بيننا وفي بلاد أخرى، ينتقدون مجاملة للناس، وطمعاً بمنصب أكبر). وقبول آخر أكثر استتارة لدى قاسم بك للوصول الى وظيفة عمومية كبيرة مقابل زواجه سيدة (...) من الأسر الأرستقراطية، وقبولها لذلك مقابل أمر تركه الروائي لخيالنا، في حين عزف المخرج صلاح أبو سيف ولعب بخيالنا، حين أظهرها لنا سيدة في آخر الخمسينيات أو أول الستينيات، حيث ظهر هو (أي قاسم بك) في عنفوان الأربعينيات عاشقاً للفتيات اللواتي ضحى بالزواج من إحداهن مقابل صعود سريع في الوظيفة العمومية. إلى قبول سياسي من طرف صدقي باشا لتولي حكومة يخضع ملكها لسياسة الإنجليز، إلى قبول الملك نفسه بهكذا حكم تحت الاحتلال.
تلك هي المنظومة التي ينتقدها الفيلم، والرواية معاً، في عمل أدبي وفني، يعكس مستويات الاغتصاب اجتماعياً وسياسياً، باتجاه تنفيرنا منه ليس كلاسيكياً تطهيرياً فقط، بل تنفيراً أخلاقياً ووطنياً وإنسانياً ونفسياً واجتماعياً ووجودياً وفلسفياً.
ما بين حماس صلاح أبو سيف، وتفاؤله باختتام الفيلم «القاهرة 30» بتوزيع المناشير المناوئة للملك والحكومة اللذين يوقفان العمل بدستور عام 1923، (والذي لم يكن في الرواية) وما بين واقعية نجيب محفوظ (التي تبدو متشائمة)، حين سخر أحد الشخوص، غير مستبعد عودة قاسم بيك وزيراً مرة ثانية، وإعادة إنتاج الحال، بعد دفعه الى الاستقالة بسبب الفضيحة، «من خلال تواجده في نادي محمد علي، ليعود ثانية الى الوزارة».
هل كان نجيب محفوظ فعلاً متشائماً؟
الجواب هو: لنتأمل!
تُرى ما الذي حدث بعد عام 1933، وبعد عام 1945، بعد صدور رواية «القاهرة الجديدة»، التي حولها الراحل صلاح أبو سيف الى فيلم خالد؟ بل ماذا حدث بعد عام 1966 سنة ظهور الفيلم؟ وماذا حدث بعد ذلك حتى الآن وغداً؟
حماس صلاح أبو سيف هو ما دفعه الى نشر الوعي كضمانة لتوعية الجماهير من أجل التغيير، لكن واقعية نجيب محفوظ، زرقاء اليمامة، هو ما جعله يرى، أنه ما دامت بنية المجتمع والبنية السياسية على هذا النحو، فسيستمر الحال بوجوه أخرى أو بها نفسها، بتغييرها وإعادتها مرة أخرى.
كان نجيب محفوظ ثلاثينياً وقت إصدار الرواية عام 1945، أي كان عمره 34 عاماً!، أما المخرج صلاح أبو سيف فقد كان عمره عاماً، عام 1966. ومحفوظ مجايل لصلاح أبو سيف، يكبره بأربع سنوات فقط. ومحفوظ الذي انتقد الحكم قبل ثورة عام 1952 وبعدها، من خلال نصوص روائية ناضجة ومكتملة، حمته من بطش السلطات، لربما كان أكثر صراحة وجرأة من آخرين.
تناول محفوظ مجتمع القاهرة الاجتماعي والسياسي عام 1933، في رواية صدرت بعد 12 عاماً، لكن في ظروف سياسية متشابهة، وكان تناولاً صريحاً جريئاً بل صادماً.
ولعل صلاح أبو سيف في «القاهرة  30»، أراد نقد الحاضر وليس ماضي الثلاثينيات والأربعينيات. أراد القاهرة 66، وهو العام الذي سبق هزيمة عام 1967، بما استشرفه أبو سيف، فلم يشأ لظروف ما، التسمية بالاسم، فعمد الى رواية محفوظ كي ينتقد ما يكون لا ما كان، الذي أصلاً راح لحال سبيله منذ 14 عاماً، أي سقوط الملكية عام 1952.
كان رأي نجيب محفوظ واقعياً فيما يتعلق بالثلاثينيات والأربعينيات، وهو أنه لن يكون هناك تغيير جذري في النظام السياسي، وبذلك، فستظل المنظومة بفسادها حاضرة. فهل اجتهد أبو سيف مثلاً (مقترحاً على لسان إحسان في حوارها مع حبيب الأمس الرفيق علي طه)، حين بررت ما فعلته من زواج محجوب عبد الدايم، بحرصها على تخليص أخوتها وأخواتها من البيئة التي يعيشون فيها؛ بإرسالهم الى مدرسة داخلية، وهو ما لم يرد في الرواية. هل من رمز هنا فيما يتعلق بالجيل الجديد؟
لقد التزم صلاح أبو سيف بنص الرواية، سوى من إسقاط حادثتين، لم يؤثر إسقاطهما على مجرى الفيلم، وهما حادثة أقربائه وخاصة ما حدث بينه وبين تحية، حين تحرش بها، وحادثة عفت باشا في اليخت حين تحرش بزوجته إحسان.
يبدأ الفيلم بحديث الطلبة الجامعيين عن المبادئ، وعن اليمين واليسار، والمرأة في التعليم الجامعي، والمجتمع. وهو ما ورد في الرواية، التي وصفت حال المجتمع الفكري المصري، ما بين المبادئ والأيديولوجيات، من خلال شخصيتين هما مأمون رضوان الذي يمثل التيار الديني وعلي طه الاشتراكي. وهو ما كان يزهد به محجوب عبد الدايم، لأنه يود الخلاص الفردي من واقعه المزري. وهو خلاص فردي الى آخر مدى، دفع ثمنه غالياً من شرفه.
وبالرغم من الاختلاف الفكري، فقد رأينا أن ذلك الاختلاف كان شريفاً، ولم يؤد الى خصومة. بل إنهما مع زميل آخر يتعاونون في إصدار مجلة جديدة تبشر بعهد جديد.
ظهرت مستويات التفكير بالخلاص باتجاه العدالة، من ترف الحديث والتسلية في المجالس، وصولاً لجدية على طه (يسار) ومأمون رضوان (يمين)، وسخرية أهل الحكم وأتباعهم وأقربائهم من الشعب والفلاحين.
لقد التقت المصالح السياسية بالمصالح الاقتصادية للأفراد، بل رأينا المنطلقات النفسية متمثلة بشخصية سالم الإخشيدي، الذي رغم ولائه لقاسم بيك، إلا أن ذلك لم يمنعه بإخبار زوجته بما يمارسه في شقة محجوب عبد الدايم، بل وأخبر والد محجوب المقيم بالقناطر بأن يحضر الى زيارة ابنه في القاهرة، الذي تحسنت حاله، لا كما يكذب عليه وعلى أمه في رسائله الأخيرة. وما دفعه لذلك هو اختيار الوزير قاسم بك لمحجوب زوج عشيقته إحسان، ليكون مديرا لمكتبه، متخطيا درجتين في السلم الوظيفي، بما يجعله يصير أعلى بدرجة من سالم الأخشيدي.
 فساد سياسي واقتصادي وفساد نفوس.
نقد المنظومة:
الحكومة والبرلمان. «الإخشيدي يتبع قاسم بك، وقاسم يتبع صدقي، وصدقي يتبع الملك، والملك يتبع الإنجليز» اقتباس على لسان محجب عبد الدايم.
المؤسسة الدينية، من خلال نقد خطب يوم الجمعة.
الفساد في الوظيفة العمومية، وأساليب الرشوة، وتنوع الراشي والمرتشي (موظفون كبار، سيدات مجتمع، فنانات..)
اغتصاب الحكم: «قاسم بك كل البلد بيتهم». تعليق لمحجوب عبد الدايم.
اما المصير، فكان في الرواية نقل محجوب عبد الدايم الى أسوان، بعد الفضيحة. في حين كان في الفيلم قريبا من مضمون ثبات الفساد، وهو ما تمثل بحديثه لزوجته إحسان، بأن قاسم بك سيشتري سكوت زوجته بالذهب، وسيظلان ينعمان بهذا الواقع.
القاهرة 30، والقاهرة 1966 وغيرها من المدن والعواصم اليوم وغدا ( هكذا تنبأ نجيب محفوظ).
ولعل هنا الآن من هو بيننا من ينشر عن المدن الآن..2021 في بلاد كثيرة، كما فعل آخرون في روايات وأفلام، ظهرت فيها التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
خلود الروائع: 1933، 1945، 1966، تلك أعوام لها علاقة بموضوع الفيلم والرواية.
وكلما أعدت مشاهدة الفيلم لم أخلص من الصدمة..عمر الفيلم الآن 55 عاماً، وأظنه سيعيش طويلاً.
1989، 2021، هما عامان لهما علاقة بتلقي كاتب هذه السطور، كيف تلقينا الفيلم ونحن طلبة في مصر أواخر الثمانينيات، وكيف عدنا للفيلم والرواية الآن، للتأمل فيهما، في مختبر الزمان والمكان.
بقي أن أضيف شيئاً، يتعلق بالتمثيل، بالرغم أن سياق المقال ليس الحديث السينمائي، وهو أن الفيلم مكتمل حقاً، فنحن نتحدث عن قامة عالمية هو صلاح أبو سيف رحمه الله، ومن هذا الاكتمال كان التمثيل، ولعلي هنا بعد 55 عاما على الفيلم، وبعد مشاهدة الفيلم للعديد من المرات، أرى أن البطولة كانت يجب أن تكون للأستاذ حمدي أحمد، بأن يتم ذكره أولاً، لا ثالثاً، فقد أبدع في واحد من أهم الأدوار.