لأن إسرائيل دولة مؤسسات، فإن مؤسسات الدولة لا تسمح لأي حكومة بالانقلاب على منجزات الدولة، بما في ذلك منجزات الحكومة أو حتى الحكومات السابقة، فحتى بنيامين نتنياهو وحزبه اليميني الليكود، الذي عارض اتفاقيات أوسلو عام 1994، وصوت ضدها في الكنيست، لم يستطع أن يعلن التنصل منها علانية حين وصل لمكتب رئيس الوزراء عام 1996، بل إنه اضطر للسير في مسار أوسلو، وصولاً إلى توقيع اتفاق واي_ريفر، الخاص بإعادة الانتشار في مدينة الخليل، والذي تسبب في سقوطه بعد أقل من أربع سنوات، من احتلاله منصب رئيس الحكومة، هذا الأمر ينطبق بالتأكيد على الحكومة الحالية، والتي هي ليست النقيض السياسي أصلاً للحكومة السابقة، بل تحاول من اجل "مصلحة" الدولة أن تكون أقل حدة، وبالتالي أكثر نجاعة في تحقيق تلك المصالح.
ولأن إسرائيل مجتمعة ومنذ عقود، أي منذ أيام مناحيم بيغين، وبالتحديد حين جرى توقيع اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر/السادات، تقف عند حدود الحكم الذاتي للسكان فقط، فإن كل محاولات التفاوض على الانسحاب من الأرض المحتلة تواجه الصد الإسرائيلي، بغض النظر إن كان صريحاً أو موارباً، وعلى ذلك كانت كل الاقتراحات الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية، لا تخرج عن هذا الإطار، الذي أقله الاحتفاظ بأجزاء واسعة من الضفة الغربية، تصل إلى 40%، بما يعني استحالة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، نظراً لأن الحديث يجري عن مناطق متباعدة، أي إبقاء الحالة الفلسطينية ضمن منطق الحكم الذاتي للسكان.
وإسرائيل لأنها دولة مؤسسات أيضاً، فإنها تظهر حيوية سياسية، أي قدرة على تغيير سياساتها في الشكل، خاصة حين تكون هناك متغيرات تؤثر عليها جدا، دولية أو إقليمية، ولأنه منذ مطلع هذا العام، حدث تغير حاسم في ساكن البيت الأبيض، حيث خرج منه الجمهوري المحافظ المؤيد جدا لليمين الأسرائيلي، نقصد دونالد ترامب، بشكل غير متوقع، لأنه سقط في انتخابات الإعادة، بما لم يحدث منذ عام 1980 في الولايات المتحدة، وما تبع ذلك من ضغط إقليمي، ظهرت منصته الأهم عبر محور القاهرة_عمان، الذي يتحرك الآن من اجل الدفع بالعملية السياسية قدما، فإن رفض إسرائيل للعودة إلى المفاوضات، كما يطالب الجانب الفلسطيني، وكما حتى الراعي الأميركي يقتنع، بأن تكون المرجعية هي الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، والقرارات الدولية، فإن إسرائيل التي يقود دبلوماسيتها رئيس الحكومة البديل يائير لابيد، لا تكتفي بمجرد إعلان الرفض الذي قد لا يصمد كثيرا، بل تقدم بخطة بديلة عن المبادرة المصرية، التي لم تعلن تفاصيلها بعد، لقطع الطريق عليها.
خطة لابيد تستند إلى حديثه الإنشائي السابق الذي يقول بأن الظروف غير مواتية للتوصل إلى حل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أما كيف وصل لهذا الاستنتاج، فبالطبع لم يقل، ولن يقول ما تطالبه الأطراف المعنية بذلك، وإذا كان الإسرائيليون غير جاهزين للحل، فكيف يحكم على الفلسطينيين بذلك، ثم أليس الأفضل هو الضغط على الإسرائيليين غير الجاهزين للحل من أجل أن يصيروا جاهزين للحل ؟
المهم، بعد تقديم والاستناد لهذا السبب الواهي، يتابع لابيد القول، وذلك بشكل صريح وفي شيء من التفصيل، بمناسبة مرور ستة عشر عاما على الانفصال أحادي الجانب من قطاع غزة، عام 2005، بأن خطته أو اقتراحه يرتكز على معادلة "الاقتصاد مقابل الأمن"، وهذه مقولة طالما تحدث عنها بنيامين نتنياهو خاصة منذ عام 2014 وحتى العام الماضي، دون أن تجد أي صدى الجانب الفلسطيني، فلماذا يعيد لابيد تكرارها اليوم أيضاً؟
هذا سؤال مهم جداً، فعلى ما يبدو أن حديث الإسرائيليين عن أن الجانبين غير جاهزين للحل، يراهن فيما يخص الجانب الفلسطيني، أولاً على بقاء الانقسام قائماً، وهو منجز حققته حكومات اليمين السابقة برئاسة بنيامين نتنياهو، لكنه يعتبر منجزاً للدولة، لن تفرط به الحكومة الحالية، قبل استثماره سياسياً بشكل كامل وتام، وثانياً، على حالة فوضى وضعف سياسي رسمي فلسطيني، في مرحلة ما بعد الرئيس محمود عباس، ورغم أن حديث لابيد_كما أشرنا_ عن معادلة الاقتصاد مقابل الأمن _ ليس جديداً، إلا أن الجديد والخطر جداً فيه، هو تركيزه على قطاع غزة، وكأنه يهيئ الأجواء إلى أن الحل على هذا الأساس سيكون بين دولة إسرائيل وسلطة الحكم في غزة، بما يكرس كيان غزة، بعد مرور 16 عاماً على فتح الطريق إليه.
يشترط لابيد _لا فض فوه_ وهو يشرح تفاصيل خطته، وذلك في مؤتمر هرتسليا، تهدئة طويلة الأمد في غزة، لخلق الظروف الملائمة للمفاوضات السياسية المستقبلية والتي قد تنطلق حين ذلك. وهذا يفسر أمرين، أولهما ما سعت الحكومة الحالية إلى تغييره فيما يخص إدخال الأموال القطرية لقطاع غزة، بما يعني أنها تسعى للوصول إلى تهدئة طويلة الأمد مع غزة، تفتح الحوارات غير المباشرة حولها، طريق التفاوض بين إسرائيل والجانب الفلسطيني، ولكن الخاص بغزة، أي حماس وليس السلطة الفلسطينية، والثاني أن ذلك يشغل الجميع وخاصة مصر صاحبة المبادرة في الدفع بالعملية السياسية لتنهمك في مفاوضات التهدئة بدلاً من المفاوضات السياسية.
بعد ذلك يزداد وضوح لابيد حين يتساءل: ماذا نريد من غزة بعد مرور 16 عاما، ليجيب بأنه يجب التقدم خطوة كبيرة، وهي معادلة الاقتصاد مقابل الأمن، ولم يتحدث بكلمة واحدة عن الاحتلال الإسرائيلي للقدس والضفة الغربية، وللتأكيد على أن الأمر لم يكن حديثاً صحافياً، قال إن خطة وزارته لاتفاق التسوية تتكون من مرحلتين، الأولى، إعادة الإعمار مقابل عدم تعاظم قوة "حماس"، ثم بعد ذلك ضمن المرحلة الثانية، إقامة جزيرة اصطناعية في بحر غزة، لإقامة ميناء، كذلك إنشاء شبكة مواصلات لربط غزة بالضفة، وأكد بأن الخطة لا تشير لحل الدولتين، ولكن تهدف للانفصال بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ومن الواضح بأن الحديث يجري عن دولة تبدأ بغزة مع عمق جغرافي في الضفة، في ظل سلطة فلسطينية، محتواها الرئيسي "حماس".
الخطة جدية، فقد وافق عليها نفتالي بينت وبيني غانتس، وهي من الواضح تتطلب مرور وقت، في انتظار أن يتغير عنوان السلطة، وأن تتحول "حماس" بشكل نهائي، لتصبح حركة سلطة، وليس حركة مقاومة، في هدف يسعى لإقامة دولة فلسطينية في غزة، بعمق في الضفة معلق بيد إسرائيل، لأنه يعتمد على شبكة مواصلات يمكنها قطعها في أي لحظة.