لم يعُد خافياً على أحد أن احتواء الصين أصبح يُشكّل أولى الأولويات المُحرّكة والمتصاعدة لإستراتيجية الأمن القومي الأميركي للإدارات المتعاقبة منذ عهد أوباما حتى الآن. فبصرف النظر عن كونها ديمقراطية أو جمهورية، وعن مدى حدّة الخلافات العقائدية أو السياساتية بينها، فإن الإدارات الأميركية الثلاث الأخيرة، بما فيها الإدارة الحالية، اتّبعت نفس النهج الحاد والمواجِه للصين. ويأتي اتّباع هذا النهج من استشعار الولايات المتحدة أن الصين الصاعدة هي المنافس الحقيقي والقوي لها حالياً، وتريد الإطاحة بأميركا عن قمة هرم النظام الدولي أحادي القطبية، ومن قلق الساسة الأميركيين من أن إمكانية تحقيق الصين لمأربها في تحقيق الفوز على أميركا بات احتمالاً ممكناً وقريباً، إن لم يتم بشكلٍ سريع ومباشر مواجهته بفاعليةٍ وحزم.
بعد وصول شي جين بينغ سُدّة الحكم في بكين عام 2013، وإطلاقه شرارة المرحلة العلنية من التنافس مع أميركا والغرب، والتي أعلنت عن ازدياد ثقة الصين بنفسها وبقدراتها على المواجهة المفتوحة، انتبهت إدارة أوباما للخطر القادم من الشرق. ونتيجةً لذلك، قامت هذه الإدارة بالإعلان عن تغيير إستراتيجية الأمن القومي الأميركي، وقامت ببدء الاستدارة عن منطقة الشرق الأوسط لصالح التركيز على منطقة المحيط الهادئ - الهندي. جاء ذلك لمواجهة سعي الصين للهيمنة على إقليمها الآسيوي، وبسط سيطرتها على بحريْ الصين الشرقي والجنوبي. ولتحجيم إمكانية أن تُصبح الصين دولة إقليمية كبرى، فينفتح أمامها المجال لمنافسة أميركا على مكانة الدولة العظمى، ومن أجل حصار الصين في إقليمها، بدأت إدارة أوباما بتوطيد العلاقات مع الدول المجاورة لها، كالهند وفيتنام، إضافة لتمتين علاقاتها الوطيدة أصلاً مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين.
مع أن الرئيس ترامب قام بعد استلامه السلطة بسحب بلاده من مبادرة إقامة الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، والتي عملت إدارة أوباما السابقة على إنجازها، وضرب بالتالي مشروع إقامة تحالف اقتصادي ضد الصين وهو في المهد، إلا أنه لم يتهاون في تعامله مع بكين على الرغم من ذلك. فقد قضى فترة ولايته وهو يشنّ عليها حملة إعلامية شعواء، متهماً إياها بالتستر على مسؤوليتها عن تصنيع وانتشار فيروس كورونا في العالم. هذا إضافة للانتقادات الأميركية المستمرة لسياسة قمع بكين للنزعة الديمقراطية في هونغ كونغ، ولأقلية الإيغور المسلمة في غرب البلاد. وتحقيقاً لسياسته الشعبوية المتكئة على أيديولوجيته القومية اليمينية، والتي لخّصها بشعار «أميركا أولاً»، ومن أجل حماية المُنتج الأميركي والتشجيع على إنتاجه داخل أميركا، قام بفرض تعرفة جمركية عالية على منتجات صينية كانت تُغرق الأسواق الأميركية. وأدّت إجراءات صينية مقابلة إلى نشوب حرب تجارية بين البلدين، تعززت عالمياً بانخراط دول أخرى فيها، منها أطراف حليفة للولايات المتحدة، نتيجة استهداف ترامب العشوائي لها.
كان التوقع أن خسارة ترامب للرئاسة، ووصول بايدن لها، سيؤدي إلى تغيير جذري وسريع للسياسة الخارجية الأميركية. هذا التوقع كان مبنيّاً على الاختلاف البيّن في رؤى وتوجهات الشخصين، وعلى التصريحات التي أطلقها بايدن خلال حملته الانتخابية. كان الحلفاء التقليديون لأميركا، خاصة في أوروبا، على أحرّ من الجمر لعودة الدفء إلى العلاقة مع واشنطن، الشريك الأكبر والقائد للعالم الحرّ. وحتى في الصين، كان التوقع أن وصول بايدن إلى الرئاسة الأميركية سيؤدي إلى تخفيف حدّة توتر العلاقات بين البلدين. ولكن كلا الأمرين لم يحدث.
بعد مضيّ ستة أسابيع على تسلّمها مقاليد السلطة، قامت إدارة بايدن بإدخال تعديلات على إستراتيجية الأمن القومي القائمة منذ عهد ترامب، وذلك لحين إنتاج وثيقتها الخاصة التي يُفترض أن تنشرها خلال العام الأول لها في الحُكم. وفي الوثيقة المُعدّلة تُؤكد الإدارة الجديدة على اعتبار الصين الخطر الأكبر الذي يواجه أميركا ومستقبلها كدولة عظمى، وعلى أن مواجهة صعودها وتعطيل مساعي هيمنتها الإقليمية يُعتبر أولوية الأولويات لهذه الإدارة. ليس هذا فحسب، بل لم يقم بايدن بما كان متوقعاً منه لتخفيف التوتر مع الصين، وذلك بتقليص حدّة الانتقادات الموجهة لسلطوية النظام، وإلغاء حزمة الإجراءات والقيود التي فرضها ترامب على بكين، أو على الأقل التخفيف منها. على العكس تماماً، أبقى عليها كما هي، وذهب لأول اجتماع له مع مجموعة السبع في كورنوال بإنجلترا، ولأول زيارة له لبروكسل، مقر الاتحاد الأوروبي للاجتماع مع أهم حلفاء أميركا، ليحرّض على الصين، ويفرض عليها المزيد من الحصار الاقتصادي. لقد فاجأ بايدن العالم باتبّاع النهج المتشدد لسلفه مع بكين، وأدار ظهره للرئيس شي، ولم يُكلّف نفسه عناء الاجتماع معه، كما كان الحال مع الرئيس الروسي، بل أوكل لوزير خارجيته إجراء أول لقاء مع الصينيين.
قبل أيام معدودة قامت إدارة بايدن بمفاجأة العالم مجدداً بشأنٍ يتعلق بالصين، مع أنها تُنكر تلك العلاقة. فقد تمّ الإعلان عن اتفاق بإقامة تحالف ذي طبيعة أمنية - عسكرية بين أميركا وبريطانيا وأستراليا، ويُعرف باسم تحالف «أوكوس»، يتم بموجبه تزويد أستراليا بتقنية أميركية تتيح لها بناء ثماني غواصات تسير بالدفع النووي. أما المبرر لهذا التحالف، كما أعلن الرئيس الأميركي خلال مؤتمر عُقد بالتقنية الافتراضية مع رئيسَي وزراء بريطانيا وأستراليا، فهو الحفاظ على «الاستقرار الإستراتيجي» في منطقة المحيطين الهادئ والهندي ورسم «كيفية تطور» هذا الاستقرار. ومع أنه لم يأت على ذكر الصين، إلا أنه من الواضح أنها المستهدفة من قيام هذا التحالف، ومن تعزيز القدرة البحرية الضاربة لأستراليا، وتوسيع التعاون على تطوير تقنيات عسكرية جديدة بين الدول الثلاث، وبما يُسهم في زيادة قدراتها على مواجهة التحدي الصيني في المنطقة. وما يؤكد هذا الاعتقاد هو التوجه الأميركي الإضافي لتعميق العلاقة مع أستراليا من خلال توسيعها وربطها بعلاقة إستراتيجية مع الهند واليابان أيضاً، لتتشكل «الرباعية» المضادة للصين، مضافاً إليها بريطانيا بالطبع.
جاء هذا الإعلان المفاجئ عن تحالف بدأ في التشكّل سراً منذ وصول بايدن للرئاسة مفيداً للأطراف الثلاثة المشاركة فيه. فهو يمنح أميركا موقع صدارة جديداً، ويُنعش ماكينة صناعاتها العسكرية، ويعطيها وسيلة حيوية لمواجهة التمدد الصيني الذي يقضّ مضاجعها، ويزوّد إدارة بايدن بذخيرةٍ تحتاجها لتعزيز شعبيتها الداخلية التي تضررت بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان. فها هي تعود للمنطقة بقوة، ومن خلال تحالف قوي ودائم مع أطراف يُعوّل عليهم. أما بالنسبة لبريطانيا، ذيْل أميركا الهزّاز، فهذا تحالف مهم لها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، ويظهرها قادرة على حياكة تحالفات خارج الإطار الأوروبي الذي كان دعاة الخروج من الاتحاد الأوروبي يدّعون بأنه يكبّل لها خياراتها. ويستفيد بوريس جونسون من هذا التحالف كونه يمنح حكومته إمكانية الادعاء بتحقيق رؤيته، وهو مهندس عملية الخروج من الاتحاد، بـ «بريطانيا العالمية». أما بالنسبة لأستراليا فهو تحالف مهم يزيل عنها جزءاً من قلقها المتنامي جرّاء الاندفاع الصيني في منطقتها، وهي الضعيفة أمام الصين، وبحاجة إلى حلفاء.
بطبيعة الحال، أثار الإعلان عن تحالف «أوكوس» حفيظة الصين التي قامت فوراً بإدانته، معتبرةً أنه موجّه ضدها. وأعلنت أن هذا التحالف سيؤدي إلى تسريع الدخول في سباق تسلّح نووي، وأنه سيُشعل حرباً باردة مع الولايات المتحدة. فبكين استشعرت أن واشنطن موغلةً في استهدافها، وأن عليها أن تأخذ حيطتها والحذر، وأن تعزز من قدرتها على المواجهة وقد أصبحت في عقر دارها. ولذلك، من المرجح أن تقوم الصين بمواجهة هذا التحالف بتحالفٍ مضاد، بأن تزيد من تعاونها الإستراتيجي مع دولٍ مجاورة، هي بالأساس روسيا وباكستان وإيران، وهي جميعاً ليست على علاقة طيّبة مع واشنطن. وبالتالي، يبدو أن العالم مقبل على حقبة جديدة من فرزٍ للقوى على الصعيد الدولي بين تحالفين أساسيين، أميركا وحلفاؤها، مقابل الصين وحلفائها.  والمهم في الأمر أن تركيز حلفاء القوتين يأتي في جُلّه من الشرق.
ما يُثير الانتباه أن تحالف «أوكوس» أخذ الاتحاد الأوروبي، الحليف التقليدي لأميركا على حين غرّة. فواشنطن لم تُخبر بروكسل بأمر هذا التحالف قبل الإعلان عنه، بل خططت له وأعلنت عنه بالتفافٍ كامل على بروكسل. وهذا أمرٌ أثار الدهشة والاستغراب من أكبر وأهم حليف تقليدي للولايات المتحدة، كما أدى إلى الامتعاض من إدارة بايدن التي كان يُتوقع منها إعادة ترميم العلاقات الأوروبية - الأميركية مما أصابها من أضرار جسيمة خلال فترة إدارة ترامب. أما أكثر المتفاجئين والممتعضين فهي فرنسا التي، بالإضافة إلى كونها عضواً في الاتحاد الأوروبي الذي تم الالتفاف عليه، كان يربطها مع أستراليا عقد بعشرات بلايين الدولارات لتزويدها بغواصاتٍ تقليدية، وخسرت هذا العقد بانسحاب أستراليا منه بعد حصولها على التقنية الأميركية النووية لتسيير غواصاتها البديلة. لذلك أعلنت الخارجية الفرنسية أن تحالف «أوكوس» جاء بالنسبة لها «طعنة في الظهر»، وقامت باستدعاء سفيرها من واشنطن للتشاور، ما يُنذر بنشوب أزمة في العلاقات بين الطرفين.
وخلاصة الأمر فيما يتعلق بالعلاقات الأميركية - الأوروبية بعد تكشّف موضوع تحالف «أوكوس»، فإن ما قامت به واشنطن، والطريقة التي قامت بها بتنفيذ ذلك، قد تكلّفها وهي تربح حليفاً جديداً خسارة حليفٍ آخر بالمقابل. ويجدر أن يُؤخذ بالحسبان أن أميركا وهي تواجه الصعود الصيني بحاجةٍ إلى مراكمة الحلفاء، وليس استبدال حلفاء بحلفاء. وهذا قد يفتح المجال للصين لفحص إمكانيات تعزيز تعاونها مع أطرافٍ كانت في السابق مغلقة عليها.
نحن نمّر بفترة إعادة هيكلة النظام الدولي، وإنها حقّاً لفترةٌ مثيرة.